صلحي الوادي... أن تصنع في الشرق مستحيلاً

03 أكتوبر 2021
لا تلعب المادة الشرقية لدى الوادي دوراً تمثيلياً محضاً (فيسبوك)
+ الخط -

آن الأوان لأعترف، بأنني قُبِلت في المعهد الموسيقي بدمشق بالواسطة. "المعهد العربي"، كما سُمِّي في ذلك الوقت، كان المؤسسة التربوية الوحيدة في العاصمة السورية، التي تُدرّس الموسيقى الكلاسيكية الغربية، على أسس علمية وبإشراف أساتذة مُختصين، منهم حتى أجانب.

شأنها شأن معظم عائلات الطبقة الوسطى في المدينة، وباعتبار أن للموسيقى في بيتنا جذوراً تعود إلى جدي، الملحن وجامع التراث الغنائي الدمشقي مصطفى هلال (1911-1967)، ثم بتحريضٍ من جدتي، زوجة الأخير، التي لمست ميولاً موسيقية مبكرة لديّ، عزمت أسرتي غداة بلوغي سنّ التاسعة، على تسجيلي في "المعهد العربي"، لأبدأ بتعلم العزف على إحدى الآلات.

كانت شروط القبول بالغة الصعوبة، والطلب على الانتساب كبير، نظراً إلى حدود الاستطاعة ونوعية التعليم. لهذا، لجأ أبي إلى طلب المساعدة من عمّه، الشاعر والكاتب باللغة الفرنسية، عزمي موره لي (1916-1989)، الذي ربطته دوماً صداقة بالمدير. وافق "عمّو" عزمي في إحدى الأماسي الخريفية الدافئة على أن يصحبنا في زيارة لمكتبه في المعهد. كانت تلك المرة الأولى التي قابلت فيها الأستاذ صلحي الوادي (1934-2007).

حيٌ دمشقي عريق على سفح قاسيون. الحارة يتقدمها مبنى السفارة الفرنسية التاريخي بحديقته السحرية. على طرفيها بيوتٌ كبيرة بهيئة قصورٍ صغيرة. وفي آخرها، كان مبنى المعهد. تناهت عبر نوافذه المشرعة في أثناء الدروس أصوات الآلات الموسيقية. تتداخل في نشاز مثير جذّاب، كأنها مقطوعة لامقامية لأحد المؤلفين المعاصرين.

فور اجتيازي عتبةَ المدخل الإسمنتي المزوّق بزهر عرائش "المجنونة" البنفسجي، ومن ثم صعودي الدرجات المؤدية إلى الطابق الأول، حيث مكتب صلحي الوادي، المزيّن بتماثيل المؤلفين والفلاسفة، والمغلّف بالكتب والأسطوانات، كورق الجدران، أحسست بأنني أعبر الزمكان إلى عالمٍ خاص لا يُشبه خارجه. إحساسٌ، سيرافقني حتى شبابي، ويشدّني إلى ذلك العالم باستمرار. فأبقى طويلاً، أُحلّقُ في مداره.

عالمٌ آخر، نجح صلحي الوادي بعزيمة وعناد، وسلطوية في أكثر الأحيان، في إنشائه. وجهد في رعايته وحمايته. وذلك في شرق أوسط، لابتعاده عن مسار الحداثة، وامتهانه الحروب والنزاعات السياسية، بات يعاني التقلّب والتصلّب، ويزخر بأنصاف المواهب. كان المعهد العربي في دمشق، وأوركسترا الحجرة التابعة له، تلك الجزيرة الصغيرة الأولى، التي انبثق منها سائر الأرخبيل الثقافي، من معهدٍ عالٍ للموسيقى والفنون المسرحية، ومدرسة باليه، ودارٍ للأوبرا. وشاء القدر أن يرحل الأستاذ صلحي من دون أن يحظى بتدشينها.

نشأ الوادي في أسرة إقطاعية، لأب عراقي وأم أردنية. أُرسل وحيداً وهو ما زال طفلاً إلى الإسكندرية في مصر، ليتعلّم في مدرسة "فيكتوريا كوليدج" الداخلية البريطانية، وليدرس الكمان والتأليف في معهد المدينة. ولعه بالموسيقى سافر به إلى لندن، حيث تابع الدراسة العليا في أكاديميتها الملكية. عاد أول الستينيات برفقة زوجته أستاذة البيانو الإنكليزية، سنثيا الوادي، ليستقرّ في دمشق، ويبدأ مشوار مأسسة الموسيقى فيها.

لتلك البيئة العلمانية، الكوزموبوليتية ما بعد الكولونيالية، غربية الوجهة، تنويرية الهوى (فكر عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر)، التي تشكّل فيها وعيه المبكر، ذلك الأثر المباشر على رؤيته ومنهجه، سواء بالتأليف الموسيقي أو بالإدارة المؤسسية. إلى جانب موسوعيته السمعية، وإحاطته بجلّ أعمال المؤلفين العالميين وسيرهم الذاتية، تمتع الأستاذ صلحي بثقافة عبر منهجية واسعة. إذ كان يستشهد في غير مناسبة، وبإنكليزية أجادها كلغةٍ أُم، ببيتٍ لشيكسبير، بلوحةٍ زيتية شهيرة، أو مشهدٍ من رواية أو مسرحية عالمية.

يُسر حاله المادية، جعله فناناً مستقلاً لم يضطر إلى أن يساوم نزولاً عند متطلبات لقمة العيش. الرجل "الشبعان"، كما يقول الشوام، دلالةً على حسن التربية وعزة النفس، لم يَعلق في شباك الفساد المزمن والمستفحل التي عانت منه دوائر الدولة ومؤسساتها. من على تلك الأرضية الأخلاقية والاجتماعية المتينة، استطاع بحذاقة ودبلوماسية تارة، وبغطرسة أناه الفنية تارة أخرى، أن يصبّ كل جهده في سبيل بلورة رؤاه، بأي وسيلة اقتضتها الغاية.

وقف على مسافة من التراث الموسيقي الشرقي الصرف، وأبى الاشتغال بتكريره أو إعادة إنتاجه كما هو. الموقف الذي وضعه في صدام مع المحافظين والتقليديين من ملحنين ومؤدين، وحتى المسؤولين في الدولة أصحاب الخطاب القومجي بشكليه المحلي والعروبي. لأجل تدريس الموسيقى العربية، استقدم أساتذة من الاتحاد السوفييتي (1922-1991) الذي سبق لجمهورياته في غرب ووسط آسيا أن اختبرت مناهج في تدريس الموسيقى الشعبية. حجته في ذلك، أن عازف العود أو القانون لكي يرتقي، ينبغي أن يبلغ من الاحترافية وعمق التفكير، ما يتجاوز منسوب الارتجالية وحسن التطريب.

أتت النتائج باهرة. أخذ الطلبة والخريجون السوريون من عازفي الآلات الشرقية يحصدون الجوائز في البلدان العربية والشرق أوسطية. صاروا يتقنون العزف جماعة أو فرادى بمصاحبة بيانو أو أوركسترا سيمفونية. يكيّفون مقطوعات كلاسيكية عالمية شهيرة، كـ "الفصول الأربعة"، لأنطونيو فيفالدي، لتُعزف على العود والقانون والبزق. في المقابل، بحكم أصالة البيئة الجمالية التي أتوا منها، لم يفقد أحد منهم شرقيّته، بل زادها رونقاً، بزيادة المعرفة الفنية وامتلاك عدة الأدوات التقنية.

حتى إن البعض منهم انصرف إلى الكتابة الموسيقية، ليكوّن جيلاً من المؤلفين السوريين الحداثيين. فالمسافة التي اتخذها الأستاذ صلحي من التراث، وتوفير المؤسسات التعليمية التي أدارها لفرص الدراسة العلمية والاطلاع على تاريخ الموسيقى العالمية، إضافة إلى الانفتاح على التجارب الفنية المعاصرة، قد حفّزت لدى الموسيقيين الشباب الرغبة في الإنصات إلى التراث بأذن نقدية.

تجد أن البُعيد المقامي في مقطوعاتهم، أي "العربة" أو الربع - تون، بحسب التسمية الدارجة، لم يعد يمثل هوية ثقافية جمعية، بل عنصراً تعبيرياً يدخل ضمن موسيقى تعكس هوية فردية لا تسعى إلى التماهي أو المطابقة مع الموروث بشكله القديم أو المتجدد. قد شكّل ذلك قطيعة تطورية مع الماضي العربي في سيرورته التقليدية، وكشف الموسيقى الشرقية أمام أسئلة تتعلق بالحاضر والمستقبل، وسبل الالتقاء بالحداثة وتحدي الذائقة الجمالية السائدة.

تلك الأذن النقدية، إزاء التراث، يمكن تتبعها حتى مع صلحي الوادي المؤلف. ففي موسيقى مصاحبة أعدها لفيلم فني من طراز الآرت هاوس بعنوان "اليازرلي"، حيث القصة لحنا مينه، والإخراج لقيس الزبيدي، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في دمشق سنة 1974، نسمع كيف خلع عن الموسيقى العباءة الغنائية، واستبدلها بسترة تعبيرية صممها بوحي من تيارات ما بعد الحداثة، الأمر الذي عزز حضوراً للدرامي والفكري المجرد، على حساب الحسي والطربي المجسد، بينما ظلّ اللحن الشرقي عنصراً من عناصر التأليف. يصب في المنجز النهائي بأسلوب أقرب إلى اللصق (كولاج).

مقطوعة أخرى كتبها للأوركسترا السيمفونية تحت عنوان "تأملات في لحن" (Meditation on the Theme) تتجلى من خلالها بوضوح علاقة الوادي بالبيئة الموسيقية المحيطة. فالعمل يمثل معالجة ملحمية تراجيدية للحن "حياتي إنت" الذي كتبه المطرب والملحن المصري محمد عبد الوهاب، تسعى إلى التجاوز به خارج حدود المألوف في العُرف الموسيقى العربي، من حيث الشكل والمضمون.

يحضر اللحن بشخصيته الشرقية على مقام الحجاز من خلال صوت التشيلّو المنفرد، كعنصر غنائي ميلانكولي تستجيب له الأذن بصورة أولية. أما في الخلفية، فتسمع عوالم متداخلة تتولّد موضوعاتها من مادة اللحن نفسه، أو تُنسج على منوالها، لتتطور من خلال التفاعل معه ومع بعضها البعض بأسلوب "كونتربوانتي"، متعدد الأصوات، أي نغمة تقابل نغمة في تقاطعات وتوازيات خطّية، إذ يغرق لحن التشيلّو، أو يقارع الغرق، بموج الأصوات المنسجمة في حين، والمتنابذة في حين التقائها به عند نقاط شدٍّ حسيّ.

وإذا بنقلة درامية مثيرة نحو الحبكة، تُستدعى لأجلها أطقم الطبول وآلات الإيقاع. تبدو فيها موضوعات ذات طابع استشراقي زخرفي راقص تُسخّن المشهد وتُحرّك الأحداث. بعد هدوء العاصفة، تنهض الوتريات من جديد. تُعيد ببأسٍ شديدٍ تأكيد لحن "حياتي إنت" لتبلغ به ذروة مشهدية عارمة، قبل أن تتكسّر عند الختام على أعتاب الرجوع إلى الطقس التأملي. على وقع نقرٍ لأوتار الكمان يتناهى خُطىً منهكةً مترنّحةً، يعود التشيلو الوحيد، ليُنشِد شذرات من اللحن، لعلها زفرات، قبل أن يذوي.

هكذا، لا تلعب المادة الشرقية دوراً تمثيلياً محضاً، تنوب به عن ثقافة أصيلة من خلال موفدٍ سمعي، وإنما تدخل عناصرَ أولية في بنيان جمالي أشد تعقيداً، أعمق محتوىً وأكثر خصوصية، سبب إيجاده الأول هو الإنسان، المبدع والمستمع، بما يتأمله ويتخيله، وبما يخوضه ويعانيه ويشعر به إزاء العوالم التي بداخله والعالم من حوله.

على ذات القدر من المسافة عن التراث، نأى صلحي الوادي بأرخبيله الثقافي عن العالم المحيط به. فأن تكون طالباً، سواء في المعهد العربي، أو العالي للموسيقى، أو عازفاً في الفرقة الوطنية السيمفونية، يعني أن تنصاع للوقت وتلتزم مواعيد التدريبات. أن تدع منزلتك الاجتماعية وصلاتك بذوي السلطة والنفوذ خارج باب المعهد عند دخولك إليه. أن تُهمل نظافة المكان، أو تؤذي النبات والحيوان، يعني أن تكون تحت طائلة للعقاب، كائناً من تكون.

إلا أن الاستقلال النسبي في إدارة محمية ثقافية في سورية، يحكمها نظام شمولي، لم يكن ممكناً إلا بالتداخل مع أركان الدولة ومؤسساتها البيروقراطية والأمنية. لذا، بنى الوادي شبكة علاقات حميمة مع قمة الهرم السياسي في البلد. سخّرها، لا للمنفعة الشخصية بمفهومها الدارج، بل للمشروع الثقافي الذي تماهى به وعمل منفرداً على تحقيقه. وكأني به يدير العلاقة بين العالمين، الخاص بالمعهد والعام في البلد، كمقطوعة موسيقية كونتربوانتية، نغمة تقابلها نغمة، تتلاقى فيها الأصوات وتتعارض، تتآلف وتتناقض.

بضع نوتات عزفها على البيانو في مكتبه، طالباً مني أن أغنّيها، بحضور "عمّو" عزمي، وكل من أمي وأبي، بدت لي حينها فحصاً شكلياً قُبِلتُ بموجبه على الفور طالباً في المعهد العربي للموسيقى، الذي صار اسمه اليوم "معهد صلحي الوادي". لم أعِ حينها أن تلك الزيارة ستخط لحياتي مساراً علمياً ومهنياً، وتؤسس لعلاقة مركبة تربطني بالأستاذ صلحي، استمرت حتى رحيله، ومرّت بأطوار من المد والجزر، فيها الحلو وفيها المر.

اليوم، وفي ذكرى وفاته التي صادفت الـ 30 من شهر سبتمبر/أيلول، يبدو صلحي الوادي شخصية استثنائية في المشرق، لجهة أنه أجاد إدارة التناقضات في كل من محميته الثقافية، وبيئتها المحيطة. وقف على مسافة من التراث الثقافي المحلي، ولم يتبنّه كما فعل مصطفى هلال.

في المقابل، لم يغترب كلياً عنه وينصرف ليكتب أشعاراً بالفرنسية، كما فعل عزمي موره لي. كان من المتاح له أن يبقى في الخارج المستقر والمريح. أن يُقيم في منزل وادع في إحدى ضواحي لندن، يُدرّس الموسيقى ويؤلف قصائد سيمفونية. إلا أنه حزم أمتعته، وعاد إلى الشرق القلق، المتأخر والمتأزم، ليلتحم فيه ويصنع المستحيل. أما أن تصنع في الشرق مستحيلاً، فذلك يعني أن تخلص إلى نتيجة، مفادها أنّه لم يكن لك بالإمكان أفضل مما كان.

المساهمون