في أحدث كتبه "كانّ: أطلس السينما المعاصرة بين السياسة والتاريخ" (دار الحضارة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2021، 192 صفحة)، حاول الناقد والكاتب المصري صلاح هاشم (1946)، مزج العام بالذاتيّ، والاقتراب من التاريخ لتحليله، استناداً إلى التجرية والمعاينة المتكرّرة.
محاولة صادقة لاستعادة محطّات ومراحل وحالات، عاشها الناقد في تغطيته السنوية لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، في 40 عاماً، كناقدٍ أو مراسل صحافي، أو كعضو لجنة تحكيم. مقالات متنوّعة ومتباينة، تتناول أفلاماً وأوضاعاً وتاريخاً، تستحق، بحسب قوله، "أنْ تُروى"، وذلك بلغةٍ خاصة وبسيطة ومميّزة له ولكتاباته، تجمع بين الفصحى والعامية، والأمثال والتشبيهات الخاصة، المُغرقة في لهجتها وواقعها الخاصين، مُبتعداً بها عن لغة النقد والتأريخ الأكاديميّين، وملامساً حدود الرواة وأساليبهم، كـ"مولد سيدي كانّ" أو "كوكب كانّ" أو "الأمم المتحدة للسينما"، وغيرها من تسمياتٍ تبرز بغتة في سطور "حكاية كانّ"، وبين فقراته.
للكتاب 6 فصول، يسبقها مدخلٌ بعنوان "رواية (كانّ) يحكيها صلاح هاشم"، من دون معرفة كاتب المدخل: أهو الناقد نفسه، أم الناشر. والمدخل لم يُضف كثيراً، لتكراره ما يَرِد لاحقاً، خاصة في الفصل الأول، الذي حاول هاشم فيه، قدر المستطاع، كتابة سردٍ تاريخيّ سريع، من دون إخلال، عن تاريخ المهرجان: كيف ولد كفكرة، وكيف تطوّر، وارتباطه بالمدينة الفرنسية "كانّ"، إلخ. وأولاً، العلاقة الوطيدة للمهرجان بالسياسة منذ انطلاقته، حتّى تحرّره منها أخيراً، مُكتسياً صبغة فنية غالباً.
المُثير للانتباه أنّ عنوان الفصل الأول "أطلس السينما بين السياسة والتاريخ"، يتصدّر الغلاف كعنوانٍ فرعي، من دون أدنى مُبرّر، ما أثقل على الكتاب، ومنحه ما ليس له. فمفردة "أطلس"، أكانت منسحبة على الكتاب كلّه أو على الفصل الأول فقط، لا تستقيم نهائياً مع المحتوى الموصوف بكونه أطلساً للمهرجان، ولتاريخه. في الفصل الثاني، "ولدوا في كانّ"، يتحدث هاشم عن نجومٍ ونجمات، ومخرجين ومخرجات، قدّمهم المهرجان، أو برزوا فيه لأوّل مرة، وترسّخت أسماؤهم وأعمالهم بفضله، مُشيراً إلى الدورات التي وُلدوا فيها. مثلاً: وراء الكاميرا فرانسيس فورد كوبولا وكوانتن تارانتينو؛ وفي التمثيل روبرت دي نيرو ونستاسيا كينسكي. هذا الفصل أصغر حجماً من الفصول الأخرى، رغم أنّ مهرجان "كانّ" قدّم أسماءً كثيرة غير المذكورة فيه.
"كان يا ما كان" (74 عاماً من الأحلام)، عنوان الفصل الثالث، أطول فصول الكتاب، وأكثرها كثافة وامتلاءً بالنقد السينمائي، وتحليل أفلامٍ ودوراتٍ، ومتابعتها، علماً أنّ هاشم آثر التوقّف عند دورات محدّدة في سيرة تغطيّته السنوية للمهرجان، شكّلت علامات فارقة برأيه: الدورات 46 و50 و62 و66 و68 و71 و74. توقُّفُه عندها قليلاً مصحوبٌ بتناولٍ نقدّي لأهم الأفلام والجوائز والأسماء البارزة فيها. أما الفصل الرابع، فترجمة لكتاب جيل جاكوب، الكاتب والناقد والرئيس السابق للمهرجان، "سوف تمضي الحياة كحلمٍ" (عنوان الفصل أيضاً)، الذي كشف كواليس المهرجان وأسراره وألغازه في 30 سنةٍ، بدأها مندوباً عاماً للمهرجان منذ عام 1977، ثم رئيساً له بين عامي 2000 و2014. كتب هاشم كيف استطاع جاكوب "تحويل المهرجان، الذي كان قبل أنْ يتولّى إدارته أشبه ما يكون بحفل لعلية القوم، إلى عيد حقيقي للسينما والفن". لعلّ أهمّ ما في الفصل ترجمته للقواعد الـ15 التي وضعها جاكوب لنفسه، ولم يحِدْ أو يتنازل عنها أبداً في إدارته المهرجان، واختياره الأفلام، وتعامله مع النجوم.
عنوان الفصل الخامس "قائمة الاختيار الرسمي"، عنوان كتاب "الاختيار الرسمي" لتييري فريمو، المندوب العام للمهرجان منذ عام 2001، الذي شرح فيه باستفاضة تجربته في كواليس المهرجان، منذ بداية عمله فيه، حتّى اضطلاعه بمهمة اختيار الأفلام وبرمجتها، ولجان التحكيم، وغيرها. الكتاب أشبه بمذكّرات واعترافات وأدب رحلات، كما يصفه هاشم، ترجمت فقرات قليلة ومهمّة منه، أقرب إلى يوميات موجزة لفريمو في تواريخ معيّنة، ذات أهمية.
خصّ صلاح هاشم الفصل الأخير بعنوان واعد: "كنتُ مُحكِّماً في كانّ"، ما يعني أنّه سيتحدث عن كيفية اختياره عضواً في لجنة تحكيم مسابقة "الكاميرا الذهبية"، في الدورة الـ42، عام 1989. لكنّ الفصل مبنيّ على شكل أسئلة وأجوبة، ردّاً منه على استطلاعٍ غير منشور لناقدٍ لبناني، كما كتب. فيه، أجاب هاشم سريعاً عن كيفية اختياره عضواً في تلك المسابقة، من دون أنْ يتطرّق إلى أكثر من هذا، ومن دون ذكر شيءٍ عن الأفلام والتصويت ورأي أعضاء اللجنة، والحوارات بينهم، وتفاصيل أيام التحكيم، وحيثيات اختيار الفيلم الفائز. مع ذلك، يُفصح الحوار المهم عن صلاح هاشم الفرد والإنسان، وعن علاقته بالمهرجان، وطقوس المُشاهدة، والأفلام، والكتابة.
يختم صلاح هاشم كتابه بلائحة الأفلام المصرية المشاركة في دورات المهرجان. لكنْ، ماذا عن أهمية هذه اللائحة في سياق الكتاب؟ لماذا الأفلام المصرية فقط، من دون غيرها؟ لِمَ لمْ تشمل مثلاً "يوم الدين" (2018)، لأبو بكر شوقي، آخر فيلم مصري شارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018)، رغم إشادته بالمخرج، وثنائه على فيلمه، في الفصل الثاني؟
تلي اللائحة "ملاحق": الأول بعنوان "تكريم صلاح هاشم في مهرجان جمعية الفيلم الـ46". خبر صحافي منقول عن موقع جريدة "صدى البلد". الثاني: "لماذا يمثّل الناقد الكبير صلاح هاشم (حالة) خاصة في المشهد السينمائي المصري والعربي؟"، حوار أجراه الناقد الفلسطيني الراحل بشّار إبراهيم (الموقع الإلكتروني الإماراتي "24"). الثالث والأخير، حوار أجراه الزميل نديم جرجوره، منشور في الصحيفة اللبنانية "السفير"، بعنوان "من مدوّنة سينما إيزيس" إلى "موقع سينما إيزيس".
رغم أهمية إجابات واردة في الحوارات، والردود الكاشفة عن طريقة تفكيره وتعاطيه مع الأدب والسينما والحياة والأفلام والمهرجانات والنقد، لا مُبرِّر لهذه الملاحق نهائياً، لأنّ هاشم لا يحتاج إلى تعريف به وبتاريخه، ولأنْ لا صلة إطلاقاً لها بسياق الكتاب، المتحمور حول تاريخ مهرجان "كانّ".
بفضل تجربته المهمّة، وحضوره المنتظم والمكثّف في المهرجان، وخبرته السينمائية الكبيرة، كان يُمكن للناقد صلاح هاشم أنْ يؤلِّف كتاباً على نحو أطلسيّ، بالمعنى الفعليّ للكلمة، أعرض وأعمق وأشمل من هذا. كتابٌ أطلسيّ يُثري المكتبة السينمائية العربية بتجربة خاصة، لو أنّ صاحبه مزج تلك التجربة ـ بكلّ ما خبره في الدورات المختلفة ـ بفنّ الرحلات وأدبه، وبأساليبه ومفرداته السردية والنقدية، التي تجمع بين فرادة التجربة وتلقائية "الحكي". لكنّ هاشم لم يطمح إلى هذا، ربما بسبب مشقّة المهمِّة، وصعوبة تذكّر تفاصيل دقيقة وكثيرة مرتبطة بدورات المهرجان، منذ تغطيته لها، أو لكسلٍ منه.
إلى ذلك، كان يجب تحرير فقرات كثيرة من الكتاب لتكثيف عدد منها، ولإزالة التكرار من بعضها، ولإيجاد اتساق بين العناوين والمتون، وطبيعة الفصول. وأيضاً، مراجعة معلوماتٍ كثيرة عن المهرجان باتت مسلّمات، كأنْ يذكر أنّ "كانّ" يتوفّر على أكبر شاشة عرض، وهذا غير صحيح، إذْ افتُتحت أكبر صالة "آي ماكس" في "ليون بيرغ" في ألمانيا، عام 2020، بارتفاع 23 متراً، وعرض 44 متراً. أو كأنْ يقول إنّ المهرجان يحضره أكثر أو قرابة 6 آلاف صحافي وناقد من العالم، بينما أرقام المهرجان تؤكّد أنّ العدد لا يتجاوز 4 آلاف. أو أنّ المهرجان يحتوي على أكبر صالة عرض، بينما صالة "غراند ريكس" في باريس تتّسع لـ2700 مقعد، علماً أنّ "صالة لوميير الكبرى" في "قصر المهرجانات" في "كانّ" تتّسع لـ2300 مقعد فقط. أيضًا. يكتب هاشم أنّ المهرجان يحتلّ، من حيث الأهمية، المرتبة الثالثة بعد "الدورة الأولمبية" ونهائيات كأس العالم في كرة القدم.
معلومات وأرقام أخرى عديدة بحاجةٍ إلى تصحيح وتدقيق، تكرّرت كثيراً، بإفراط أحياناً، بعد فقرة واحدة من ذكرها مثلاً. لذا، كان يُفترض بالكتاب أنْ يُحرّر ويُدقَّق ويُراجع. بالإضافة إلى أنّ ما ينقصه، بشدّة، ليُصبح أطلساً للمهرجان بحقّ، كامنٌ في عدم تناوله أجواء المهرجان وفنيّاته وفضائحه، دورة تلو أخرى، والصالات والقوانين والتنظيم قبل انعقاد المهرجان في القصر الحالي والآن، وما طرأ من تغيير في عقودٍ متتالية، منذ سبعينيات القرن الـ20، ونظام الحضور الصحافي والبطاقات والمركز الصحافي، ثم دخول الإنترنت، وانتهاء بدورة كورونا عام 2021، وطبيعة الحضور والقادمين إليه، والاختلافات والتطوّرات والتجديدات بين الماضي والحاضر. حتّى على مستوى المدينة والسكن والمواصلات والأسعار والطقس إلخ.
أمورٌ كهذه يُمكن تداركها في طبعة لاحقة موسّعة.