لم يسجل تاريخ سورية على مدى سبعين عاماً ولادة نجم أو مغنٍّ سوري يتقن فنون الغناء، كما هو حال الفنان الراحل صباح فخري. لأكثر من خمسين عاماً افتقدت سورية آلية صناعة نجوم في الغناء. وكل المحاولات التي خرجت إلى الضوء لم تعدُ مجرد مبادرات فردية، كما هو حال تجربة المغنية أصالة نصري التي انتعشت من خلال طليقها أيمن الذهبي، إذ فرضها كمغنية بعدما أمَّن لها طريق القاهرة الفني، وعرّفها إلى معظم الملحنين والشعراء المصريين. من القاهرة، وليس دمشق، انطلقت أصالة لتحمل موهبتها وجنسيتها الأم إلى العالم في معركة كفاح فني، أثبتت ضمنها أن في سورية أصواتاً تستحق فرصتها من الضوء والنجاح.
لا ريب في أن فرص صباح فخري وقيمته الفنية تعدَّت كل أسوار زملائه من المغنين السوريين، وتفردت على مدى نصف قرن أو أكثر بهذا الإرث الفني الذي تحول إلى مدرسة، سواء في المواويل أو القدود، إذ لم يزاحمه فيها أحد، إلا الأولين الذين أبقوا على هذا الفن الراسخ والقائم في مدينة حلب. لكن كل المنافسين بقوا في الصف الثاني، ولا يزال بعضهم ينتظر الفرصة لبلوغ شهرة صباح فخري ونجاحه، لكن ذلك يبدو بعيد المنال.
أعطى صباح فخري لسنوات "روحاً" للغناء القائم على المواويل والأدوار التي تخصصت بها سورية، وانفتح فيما بعد ليصيب الدول العربية كافة بهذا اللون الغنائي الشرقي البحت، وأضحى كأنه إرث فني لم يعد بالمقدور الاستهانة به نظراً للطلب عليه.
تعتبر مدينة حلب السورية من أكثر المدن العربية التاريخية التي تفيض بالغناء العربي أو الشرقي الأصيل. وتأتي حكاية صباح فخري التي تمتد لأكثر من 70 عاماً واحدة من أشهر الحكايات الذاتية لفنان عرف كيف يحرك الجمهور، وتجاوز الإعلام السوري الضيق، وتحول إلى نجم عربي لا يزاحمه كثيرون. حاول صباح فخري تقديم نفسه على أنه الأوحد، ونجح في ذلك حتى بعد رحيله في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.
رغم تواضعه، كان يعمل بطريقة مكنته من كسب نجومية مطلقة، ولم يبدل في مفهومه الغنائي، بل أصرّ على اعتبار الغناء مادة حيوية لا تقبل التشكيك لكل أصحاب أو فئات المواهب في العالم العربي. وظل يحرك كرسيه كما يريد هو، كمحاولات رافقته إلى أيامه الأخيرة، ولم يورث فخري الغناء لأحد من مساعديه، ولا حتى ابنه، الذي يحاول في كل مرة كسب ثقة الناس ومحبتهم لوالده للخروج إلى الضوء، لكنه يعود لأترابه محمَّلاً فقط بالخيبة.
انسجم صباح فخري مع نفسه وآرائه، وحاول التوفيق في طريقة التعاطي مع من حوله بذكاء، واستظل نجوميته بتواضع وخجل مكنت الجمهور من التماهي معه ومحبته، ويسجل أيضاً أنه كان يعطي شهادات في الغناء، أو يشجع الهواة على التعلم والاحتراف. توثق بعض البرامج الفنية المصورة في لبنان لقاءات جمعت صباح فخري بمجموعة لا بأس بها من المغنين، فنجده معلّماً مع رويدة عطية، يجلس موجهاً ومغنياً، بعيداً عن أسلوب الوعظ، مبتسماً دوماً لمن يغني حوله، ويكسب بذلك جيلاً آخر من الفنانين الذين ينتمون، ولو بشهادة مختصرة، إلى مدرسة فخري الغنائية، ولو كان التقارب أحياناً مجرد مجاملات لا توازي صوت ومقدرة وطبقات صوت فخري نفسه.