برحيل المطرب السوري صباح فخري (1933 - 2021)، يطوي كتاب الغناء الطربي الكلاسيكي صفحته الأخيرة، وتنتهي حقبة كاملة، بمعالمها وتقلباتها. يتجاوز فخري أن يكون مجرد مطرب متمكن صاحب صوت مقتدر، أو فنان طالت مسيرته زمنياً مع الغناء كما لم تطل مع مطرب آخر. فالرجل انحاز 75 عاماً إلى نمط معين من الغناء الموروث، من دون أن يهتز لرياح التغيير العاتية التي لم يكد ينجو منها موسيقي ولا مطرب. ومع طول الرحلة، وتوالي العقود، صار فخري ممثلاً شرعياً لذلك الغناء العربي الوازن، ذي الأركان المرفوعة على قواعد الدور والموشح والقصيدة الموقعة والمرسلة والموال والطقطوقة والقد؛ غناء المقام والإيقاع، وإدارة الصوت وفق رؤية تنظر حذراً وشزراً إلى أنماط "التحديث"، وتقف بالمرصاد إلى "مكائد" التغريب المتخفي تحت عناوين "التجديد".
اجتمعت لصباح فخري كل عوامل القوة الفنية؛ فمع موهبته الصوتية الكبيرة، تضافرت ظروف المكان والزمان والنشأة والتأسيس والأساتذة وطرائق التعليم، لتخرج إلى العالم العربي أحد أهم أعلام الغناء المكين. فالمولِد في حلب، وهي المدينة العربية الوحيدة التي يقترن اسمها اقتراناً كاملاً بفنون الغناء والطرب. حلب مدينة أسست على النغم من اليوم الأول، وهي مستودع الغناء والتلحين والإنشاد والموالد ورواد فن الموشح الذي يمثل أكبر مستودع للإيقاع العربي. وتاريخ الميلاد عام 1933، أي إن طفولة الرجل تواكبت مع ذروة النهضة الموسيقية العربية، وتربع عبد الوهاب وأم كلثوم على عرش الغناء.
وبالتاريخ والجغرافية، كان صباح فخري محظوظاً. مسقط رأسه يزدحم بأساطين الفن وعمالقة التلحين، فتهيأ للمطرب الواعد أن يتلقى أصول الفن عن شيوخه، أخذاً مباشراً بلا واسطة ولا إسناد. قائمة الأساتذة تشمل أسماءً محفورة في الذاكرة الطربية العربية: عمر البطش، وعلي الدرويش، ونجلاه نديم وإبراهيم، ومجدي العقيلي، وعزيز غنام. ومع هذا التلقي الحرّ والمستمر، اجتاز فخري مراحل الدراسة النظامية، في معهد حلب للموسيقى، ثم معهد الموسيقى في دمشق حيث تخرج عام 1948، واتسم ما تعلمه بقدر كبير من التنوع والشمول: الموشحات، والأدوار، ورقص السماح، والإيقاعات، والعزف على العود.
ومع بداية عقد الخمسينيات وتوالي إنشاء التلفزات العربية، أخذت شهرة صباح فخري في الاتساع، وظلت قاعدته الجماهيرية في زيادة مطردة، تجتذب فئات عمرية واجتماعية وثقافية متنوعة. وجد الشباب في ما يقدمه الرجل وجبة طربية دسمة، لا يجدونها في مطربي عصر الـ"كاسيت". انبهروا بقوة صوته وقدرته على الغناء لساعات متصلة، وأعجبوا كثيراً بطول مسيرته الفنية. والحقيقة أنّ "الاستمرارية" عند صباح فخري ليست فقط دليلاً على القدرة والقبول الشعبي، لكنّها تتجاوز هذا الجانب الشخصي إلى ما هو أهم. كان استمرار صباح فخري في غناء هذا اللون لعقود متتالية، مع امتلاك قاعدة جماهيرية كبيرة من الشباب والأجيال الجديدة، برهاناً ساطعاً على قابلية الغناء الكلاسيكي للاستمرار والبقاء واجتذاب جماهير جديدة، وأنّ طريقة تقديم التراث لها أكبر الأثر في قبول هذا التراث أو الانفضاض عنه. ومن خلال صباح فخري، عرف كثيرون طريقهم إلى مطربي عصر النهضة، وبحثوا عن موشحات عمر البطش، وأدوار محمد عثمان، وتسجيلات صالح عبد الحيّ، وأسطوانات يوسف المنيلاوي وعبد الحيّ حلمي.
طريقة فخري ووقفته على المسرح وتفاعله مع الجمهور، وأداؤه لشيء من رقص السماح، كلها عوامل جعلت منه قنطرة للعبور إلى "القديم"، من أجل استكشافه وفهمه والتمتع به. لم يخفِ صباح يوماً انحيازه الفني، وظل طوال حياته يدافع وينافح عن كلاسيكية الغناء.
أثار كثيراً من الجدل الصحافي والإعلامي، ولم يكن كلُّ صاحب قلم قادراً على استيعاب رؤية الرجل أو فهمه. لا ينسى المهتمون بالفن تلك الضجة التي أحدثها الرجل أوائل التسعينيات، حين صرّح بأنّ عبد الوهاب وأم كلثوم هما السبب الرئيس في تدهور الغناء العربي المعاصر وانحطاطه. كان لسان حال أصحاب الأقلام: كيف لعاقل أن ينسب التراجع والتدهور الغنائي إلى زعيمي هذا الفن في العالم العربي؟ ألم يكن متعارفاً لدى العرب، من بغداد إلى الرباط، أنّ عبد الوهاب وأم كلثوم قد ارتقيا بالفن حتى أبلغاه ذروة لا تدرك؟ وبالطبع، لم يرد فخري أن ينتقص من قدر عبد الوهاب ولا أم كلثوم. لكنّه، وهو المنحاز بكليته إلى الغناء الكلاسيكي، والمتمسك حتى آخر لحظة بأشكال الأداء التراثي، رأى في التوجه الغنائي والتلحيني لعبد الوهاب، ولا سيما بعد حقبة الثلاثينيات، تنكراً وإزراءً بالطرب الموروث. وفي ما يخص أم كلثوم، فهي وإن ظلت متمسكة بأسلوب كلاسيكي في غنائها، فقد تخلت مبكراً عن قالب الدور، ولم تلتفت يوماً إلى قالب الموشح. ولمكانة عبد الوهاب وأم كلثوم، تأثر العالم العربي إلى حدّ كبير بموقفهما، فألقى القوالب الغنائية الكلاسيكية إلى غيابات الإهمال والنسيان.
وفي المقابل، لم يسلم صباح فخري من النقد اللاذع، واتهم باستغلال مكانته ومناصبه واتصالاته لخدمة نفسه، والإفساح الإعلامي لأعماله وتسجيلاته، ومحاربة كلّ صوت قد يشكل منافسة جادة. لاحقته اتهامات الاستعلاء والكبر والغرور وتجاهل المواهب الحقيقية، وحرمان بعض أصحاب الأصوات الممتازة عضوية نقابة الفنانين. ولأنّ "الكلاسيكية" و"الأصالة" معانٍ تتسم بقدر من الاتساع، وتفتقر إلى تعاريف محددة واضحة، ويتفاوت الباحثون وأهل الفن في تصورها النظري، وفي طرائق الأداء العملي الذي يستحق أن يوصف بها، فقد صدرت ضد فخري اتهامات بتشويه التراث، وانعدام الأمانة في تأديته، بكثرة التصرفات والارتجالات، وإدخال بعض التغييرات اللحنية، وصولاً إلى التورط في أنماط من الأداء التجاري التي ترضي قطاعات جماهيرية أوسع.
وكل هذا طبيعي ومفهوم عند كلّ من يتابع الأوساط الفنية. وأيضاً، فإنّ كلّ هذا لا يهم المستمع العادي، ولا الجماهير العريضة التي أحبت فخري واحترمت فنه، وما تركه الرجل من تراث مسجل، هو من الضخامة والتنوع بحيث يبقى صاحبه كبيراً وفذاً واستثنائياً، حتى من شطب نصف هذا التراث.
ولعلّ صباح فخري أكثر المطربين نيلاً للجوائز والأوسمة وكلّ مظاهر التقدير، سواء داخل بلده سورية، أو في مختلف أقطار العالم العربي، فقد نال تكريماً رفيعاً من مصر وتونس والجزائر والمغرب وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة والأردن، وتنوعت أشكال تكريمه في كثير من البلاد الغربية، ومنها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا والسويد، وفي كثير من حيثيات هذا التكريم كان يذكر التزامه الغناء التراثي الكلاسيكي وحرصه وحفاظه على هذا الأداء لفترات زمنية طويلة وممتدة. كذلك كتبت عنه كثير من المقالات والدراسات، وصولاً إلى الرسائل الجامعية.
شكّل صباح فخري، بصوته، وطريقة أدائه، وطول مسيرته، ظاهرة فنية كبيرة، وعلى هامش مسيرته الغنائية، خاض تجربته التلحينية، واشترك في بعض الأعمال السينمائية، وكان ضيفاً شبه ثابت في معظم المهرجانات الغنائية العربية، وأحيا محافل كبيرة في معظم قارات العالم، وفي أشهر المسارح وأعرقها، وكان إنجازه الأكبر اجتذاب جمهور جديد وضخم من الشباب إلى لون غنائي كاد يندثر. وبرحيله اليوم، يفقد الفن العربي ركناً من أركانه الكبيرة، وإحدى أكثر الشخصيات الغنائية تأثيراً في العالم العربي. وبرحيله، أيضاً، يتوقف الغناء العربي أمام المرآة متسائلاً في حيرة: كيف المسير؟ وأين المصير؟ رحل صباح فخري.