في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وبعد عامٍ من حصار قوات العدوان الإسرائيلي لمدينة بيروت 1982، وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، انتشر في سورية شريط كاسيت احتوى خمس عشرة أغنية، تصدح أولى كلماتها بـ"اشتقتُ إليكِ اشتقتُ اشتقتُ/ وما أخّرني إلّا حرّاس الطّرق إليك... إلى وطني".
على مشبك الشارع المخطوف، راح سميح شقير يجدل الحياة قصائد وموسيقى، تحكي الحب والغربة، وأنين المدن والمعتقلين في السجون توقًا لعيش الحريّة بكرامة وبلا تنازلات، وتشفّ عن الفضاء العام المتأزم جرّاء سلخ الحياة السياسيَة قسرًا عن جسد مجتمعٍ لا طاقة له أمام سطوة حكم العسكر.
كان ألبوم شقير الأول أشبه ببيان قدم من خلاله تجربته الخاصّة: "لمن أغني في عصر الذّرة والنترون؟/ لمن أغني في هذا الزمن المجنون؟ للأطفال المحروقين أغني/ للفقراء رماد حرائق هذا العالم دون ذنوب/ أنا لا أغني طربًا/ أغني قبل أن أتمزق قهرا/ أغني هارباً ومن التابوت وأغني كي لا أموت".
اهتدى سميح شقير بخطى الشيخ سيد درويش، والشيخ إمام، وتقاطع وتجارب فهد يكن ومارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وغيرهم من مُجايليه. ولكن ابن الجنوب السوري، امتاز برصانة شغفه بالشعر وباللغة، وبما مسّه من ألحان -تشرّبها منذ طفولته- مشبعة بعنفوان الحرّية، وتحكي قصص البطولات، والمعارك الضّارية ضد أجناس شتى من الجيوش. فسميح هو ابن مدينة القريّا التابعة لمحافظة السويداء، بتاريخها السّياسي والنّضالي العريق والمتجذّر في كلّ ثورات وانتفاضات سورية والمنطقة.
هناك في جبل العرب؛ تشرّب شقير روح الجنوب السوري، وشمال الأردن، وفلسطين. لقد تجمّعت في هذه الجغرافيا طقوسٌ وألحان تكاد تكون واحدة، تتشارك في غناء الأمجاد والتضحيات، في المآتم والأفراح، وفي أمسيات السهر الليلية المعتادة. وكان ذلك واحدا من الأسباب التي أتاحت لشقير، وبجهده الخاص، أن يمتاز بالقدرة على صناعة الأغنية المتكاملة التي تلهب الشارع، وفي وقت قياسي، فهو الشاعر والموسيقي والمُؤدّي وأيضاً هو السياسي الذي شهد تكوّن شخصيّة الديكتاتور في سورية، وأحسّ بكمّاشاته تحبس أنفاس الناس، فكانت الأغنية متنفسه وكانت بدورها الاقتراح الذي قدمه لتكون بمثابة ثقب أكسجين رئةِ الحارات المخنوقة.
إذا ما حاولنا جدولة الأغنية السياسية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، استناداً إلى الاصطفاف السياسي، وطبيعة الشرائح الاجتماعية التي تيسر لها الوصول إليها، وإلى صيرورة التراكم الكمّي والنوعي للتجارب؛ يمكن مقاربة ذلك على النّحو الآتي:
أغنية وطنية بعيدة عن الانتماء السياسي
استطاعت الوصول إلى عموم الشرائح الاجتماعية، محمولة على جماهيريّة المغنّي، وجاءت تواكب أحداثاً قوميّة أو انتقالات سياسية عريضة، كبعض أغاني كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وسعاد محمد، ويمكن وصفها بالأغنية الوطنية، ذات خطاب يميني موال للمؤسسة الحاكمة، بحسب أحمد الواصل في كتابه "الأغنية السياسيّة في الخليج، في تجربة خالد الشيخ". أنتجت هذه الأغنية -غالباً- كماً غير نوعي على الصعيد الشعبي والسياسي، إذ إنها تكاد تكون انتهت بانقطاع السياق الزمني لإطلاقها. وتستثنى من هذا التصنيف بعض أعمال الرحابنة، إذ إنها خرجت عن الخطاب السياسي الآنف الذكر.
أغنية اليسار الحزبي
تشكلت على قالب انتمائها اليساري المعارض للخطاب السياسي، وتشمل الأغاني والأناشيد التي أنتجها الحراك الحزبي المتنوع آنذاك الشيوعي والسوري القومي الاجتماعي والناصري. اقتصر وصول هذه الأغنية لشرائح شعبيّة معيّنة، وذلك لكونها اعتمدت خطاباً مستورداً ومكرّراً من التجارب السياسية الأم التي انطلقت منها، كما أنها التزمت -في مساحات كثيرة منها- نصوصا ذات بنية نخبوية، أمثال محمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وأدونيس، وهو ما حال دون انتقالها إلى عموم المجتمعات وهوامشها البسيطة. أسهمت هذه التجربة في تقديم كمّ نوعي هام من الأغنية السياسية، وارتبطت بأسماء معروفة (مارسيل خليفة، وأحمد قعبور وغيرهما) ممّن تأسست جماهيريتهم الغنائية على أصداء تجاربهم السياسية السابقة، ولكنهم تحوّلوا بعد انقضاء هذه التجارب إلى ما يمكن وصفه بالأغنية الإنسانية.
أغنية الفرق الملتزمة
هي التجارب الجماعيّة لفرق التزمت بنضالات سياسية واجتماعية معينة، من قبيل فرقة "الطريق" العراقية، وفرقة "العاشقين" الفلسطينية/اللبنانية، والمجموعة المغربية "لمشاهب". استطاعت هذه الأغنية الوصول لشرائح جماهيريّة واسعة، وإنتاج سياق فنّي خاص لكنّها خفتت مع انطفاء حماسة الشارع.
أغنية الجماهير اليساريّة (العضويّة)
تتقوّم من صميم الشارع، وتناصر القضايا التي قد تناصرها الأحزاب لكن من دون الانتساب لأي انتماء، ما أعطاها مرونة الوصول لمواضيع أكثر تنوعاً وبساطة، وأيضاً مصداقيّة دفعت كافّة الشرائح الجماهيريّة إلى تبنّيها، فأنتجت كماً نوعياً من أغنيات تجاوزت صفاتها الالتزام السياسي، وبذلك نَفَذَت من الشريحة الاجتماعية لتلتصق ببنى المجتمع الأولى. المثال الأشهر هنا نموذج الشّيخ إمام باعتباره ممن أسسوا لهذا المسلك، وأيضًا سميح شقير الذي هو تلميذ هذا النهج، حيث بساطة الأدوات وعمق الأثر. على مدى أربعين عاماًً من تجربة شقير؛ حافظ الأخير على الانسياب والتنوّع في الإنتاج الغنائي، وفي بناء اللغة وتراكيبها.
لقد غنّى شقير اللهجة المحكية السورية (اللهجة البيضاء) ولم يتأثر في ذلك بالرحابنة، وطلال حيدر، وجوزيف حرب، وغيرهم من شعراء المدرسة اللبنانية، ما وفر له الخروج بمزيج أصيل، كما لم تتغير شخصيّة ألحانه حين قدّم قصائد فصحى مثل "سقط القناع" أو "منكم السيف" لمحمود درويش، أو "عشبة في حطام المراكب" لكريم العبد، بل استطاع احتواء مفاصل النص الطويل بقوالب كافية ومرنة. كما وظّف سميح أجناساً مقاميّة متنوعة، ما قرّبه للمدرسة الشامية التطريبيّة.
في اللقاءات الإعلامية التي أُجريت مع صاحب أغنية "يا حيف"، التي أطلقها بُعيد انطلاق الثورة السوريّة بأيام، كان أكثر الأسئلة التي تكرّرت على شقير: "كيف طلعت معك هذه الأغنية؟". ينطوي هذا السؤال التقليدي على تجاهلٍ لتاريخ فني حفلَ بإنتاج أبرز أيقونات الأغنية الثورية في العالم العربي: "يا زهر الرمان"، و"ولو يرموك بالعتمة"، و"لو رحل صوتي"، و"لولا الأمل"، و"هي يا سجاني"، و"يا ورد وندي". فكيف يمكن اختصار تجربة كاملة بأغنيةٍ واحدة، تحملُ بالفعل مقومات النجاح، إنما شأنها في ذلك شأن المئات الأخرى من أغاني شقير؟
صاغ سميح تجربته في ظل أقسى الظروف التي يمكن أن يتعرض لها فنان، من تهميش ومحاولات للتدجين والتعبئة، وإبعاد عن الساحات الفنية، التي كان يتفاداها شقير على مضض، فيفضي السؤال المبطن حول "يا حيف"؛ هل استطاعت الأنظمة إجهاض التجارب الجادّة، أم تمكنت من اعتقال تلك التجارب بتطويع الروح الثائرة وباغتيال دوار الحريّة في الشوارع العربيّة؟
أيا يكن، لن يعجز شقير عن الشعور بالرضا عن عموم تجاربه الحيّة، في الوقت الذي لن نعجز نحن عن إحصاء تجارب عديدة لا تنفك عن طبع ورق الجدران على ماضٍ أمسى، و"يا للحيف"، لا يمت لحاضرها بأدنى صلة.