بالاستماع إلى عازف الكمان المصري، سوري الأصل، سامي الشوا (1885 - 1965) الذي تُصادف 23 ديسمبر/ كانون الثاني ذكرى رحيله، يمكن الاستقراء السمعيّ لتلك المزايا الكامنة التي تجعل من الأداء على الآلة وترية ذات القوس مؤثراً بالمتلقّي على نحو فريد، من خلال خلقها حالاً من التعاطف (Impathy) بين العازف والمستمع، تنشأ ضمن مجال بين - ذاتي (Intersubjective) يتجاوز بالموسيقى، بوصفها "هواءً مصوتاً"، كما عرّفها المؤلف الفرنسي الحداثي الفرنسي كلود ديبوسي (1862 - 1918)، الطريق الفيزيائية المباشرة من جسم الآلة إلى غشاء طبلة الأذن، ليأخذها في طريق فرعية تعبر به، على حد تعبير المنشد الحلبي حسن الحفار (1943 - 2020) "من القلب إلى القلب".
الصعوبة التقنية مرتبطة تقليدياً بهوية الآلة الوترية، والكمان تحديداً، نتيجة صغر حجمها. وعليه، فإن تناهي الأبعاد الفاصلة الواصلة ما بين مواضع الأصابع على مقبض الأوتار، غالباً ما أدى لدى العموم، فضلاً عن شريحة واسعة من الموسيقيين، بمن فيهم عازفو الوتريات، إلى مقاربة آلاتهم من نظرة تخلط ما بين البراعة (Virtuosity) والاستعراضية (Showmanship)، وبالتالي تذهب بالآلة الموسيقية إلى حقل الترفيه، مبتعدةً بها عن جوهرها البدئي بوصفها أداة للتعبير عن الذات وعن علاقة الذات بالآخر وبالعالم.
اقترنت تلك المقاربة في البداية بالكمان الكلاسيكي الغربي، كما تبلور منذ عهد العازف والمؤلف الرومانسي الإيطالي نيكولو باغانيني (1782 - 1840)، إلا أنها أخذت تنسحب تدريجياً على الكمان الشرقي، تأثراً بجيلٍ من عازفيه أواخر القرن الماضي، مثل أنور منسي (1922 - 1952) وعطية شرارة (1922 - 2014) ممن عاشوا، من جهة، أوج القومية العربية متأثرين بالنظرة القائمة على ثنائية الشرق الروحي والغرب المادي، ومن جهة أخرى، تتلمذوا بشكل مكثّف على طرق العزف الغربية، مستوردين تقنيات التنفيذ الموسيقي وأنماط التشكيل اللحني القائم على استعراض البراعة التقنية، يجمعون بينها وبين وسائل التطريب التقليدية، التي سادت بين أبناء الجيل الذي سبقهم من "الكمنجاتية".
أما بالنسبة إلى الشوا وروح عصره، فقد كانت النظرة مغايرة، وبالتالي، العلاقة الذاتية التي ربطته بآلته الكمان على صعيد كلٍّ من المنهج والمعنى ببعديه المفهومي والكياني. علاقةٌ يمكن توصيفها مجازاً بعبارة "في البدء كانت الحنجرة"، فالكمان بالنسبة إلى الشوا أولاً وسيط تجسيدٍ للصوت البشري ومحاكاة لأصوات الطبيعة بتصوّرها الموسّع الذي يشمل الحياة العضوية والحضرية. وثانياً، إخراجٌ آليّ، أي من خلال آلة موسيقية، للأحاسيس الناتجة عن تفاعل الإنسان مع ما يخالجه وما يحيط به، بوصفه عنصراً من عناصر الطبيعة.
إحدى دلائل ذلك الاستقراء السمعيّ لإرث أمير الكمان الموسيقيّ، هو الأثر الغائر والدفين الذي خلّفه صوت الأذان في سيرته الذاتية وفي نشأته الفنية والجمالية. في مقال للباحث الموسيقي السوري أحمد بوبس، نشرته صحيفة "الثورة" الصادرة في دمشق في 14 فبراير/ شباط الفائت، ذُكِر أن الشوا حين كان طفلاً، كان يسكن بجوار جامع حيّ "الهزازة" في حلب. وذات فجرٍ، استيقظ على صوت المؤذن يصدح عبر شرفة المئذنة المطلة على أرض الديار، ليلتقط كمانه ويهمّ بعزف لحن الأذان مما سجّلته الأذن.
ثم ذات يوم سنة 1953، سُمع عبر أثير إذاعة ولاية نيويورك الأميركية صوت الأذان، ليس بحنجرة مؤذّن في أحد المساجد، بل بقوس العازف والمؤلف والباحث سامي الشوا، قد حوّله إلى مقطوعة موسيقية لآلة الكمان المنفرد بأسلوب Recitativo، وهو شكل من التلاوة المغنّاة بلا مصاحبة موسيقية وبإيقاع حرٍّ مُرسل، اختار لها الحجاز، الذي جعلته الخلافة العثمانية المقام الموسيقي الرسمي لأذان العشاء في عموم الديار الإسلامية، بحُكم وقعه الميلانكولي المستجيب للأثر النفسي لحلول الليل، فضلاً عن كونه البصمة الثقافية الصوتية للشرق بالنسبة للأذن الغربية.
من خلال تسجيل نادر حفظته سجلّات الإذاعة ورُفع على منصة يوتيوب، تبرز مقدرة الآلة الوترية الفريدة ليس فقط على محاكاة الصوت البشري بطيف المشاعر التي فُطِر على التعبير عنها بالحنجرة، وإنما أيضاً تجسيد الكيفية التي يُصوّت بها الكلام غنائياً (Articulation)، كما لو أن صوت المؤذن يُسمع عبر صوت الكمان، وهو يتلو نص الأذان؛ إذ إنه كما في اللغة، ثمّة أنماطٌ تُحدد للحن صيرورته وتشكّله في الفراغ الصوتي (أو الصمت)، سواءً عبر قطع ووصل النغمات المتتابعة، أو من خلال النبرة المؤدّاة بوسائل الشدّ والإرخاء.
لأجل تلك الغاية الفنيّة النبيلة، يلجأ الشوا إلى تطويع اليد اليمنى التي تُمسِك بالقوس، ليس من أجل إظهار البراعة البهلوانية، وإنما في سبيل تمثيل الشخصية الصوتية الخاصة بالأذان، ليس بوصفه لحناً موسيقياً وحسب، وإنما حالاً نفسية ورسالة إنسانية. فالشوا الذي كان مسيحيّاً، لم يعن الأذان له بالضرورة فرضَ التوجّه إلى الصلاة بحسب العقيدة الإسلامية، إنما هو في الظاهر صوتٌ من الأصوات المُميّزة للبيئة الثقافية التي نشأ فيها.
أما في الباطن، من خلال اعتبار أدائه الأذان على آلة الكمان، فإن عزفه قد تجاوز بصوت المؤذن مهمة الدعوة إلى الصلاة، ليستحيل نداءَ الفنان إلى الربوبيَة المتجلّية في الطبيعة، ليصير فعلُ النداء حالَ الإنسان المستمرة ومقامه الدائم، ما انفك يشقّ بحنجرته كل يومٍ سكون الليل شوقاً أزليّاً إلى الأبدي.
بذلك، تتمايز مقاربته هو ومجايلوه للآلة الوترية عن أولئك الذين أتوا من بعده. إذ لم يكن عزفه خدمةً للأنا أو ترفيهاً عن الآخر، وإنما تعبيرٌ عن الذات في خضمّ الوجود وسبرٌ مجازيّ لعلاقة الإنسان بالعالم، وفي جوهر تلك المقاربة استلهامٌ للغناء بصفته حاجة كيانيّة قبل أن يكون صنعة فنيّة. هي، إذن، مقاربة ما قبل حداثية، لا تنظر إلى الموسيقى من منظور التكنولوجيا ولا تنخرط فيها بوصفها صناعة، وعليه، تعيشها بدلاً من أن تعيش منها، تماهياً مع الآلة الموسيقية، فالحلول بها، عوضاً عن احترافها والاغتراب عنها.
المفارقة، أن الاستقراء السمعيّ لأداء الشوا على الكمان لا يقتصر على تمييزه عن النهج السائد في عزف الكمان الشرقي منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، وإنما يُبرزُ أيضاً سوء الفهم العام لدور الآلة الوترية حتى في بيئتها الغربية. إذ غالباً ما يُنظر إلى الكمان وأخواتها في الشرق كمستوردٍ غربي، وبالتالي اختراعٌ محضّ ماديّ، إن لم تُشرقَن فتبقى ماكينة، لا غرض منها سوى الاستعراض.
أما في ضوء ما قاله ذات مرّة المؤلف الهنغاري ما بعد الحداثي غريغوري كورتاغ (György Kurtág) بأنه "عارٌ على عازفٍ أن ينتقل أثناء العزف من نغمة إلى التي تليها من دون أن يكون قد حقّق بها السموّ"، فإن آلةً لن تسمو بالنغم، شرقياً كان أم غربياً، ما لم تؤنسن كما أنسنها الشوا.