سارة الشاذلي وحميمية التصوير الوثائقي: أهذه عودةٌ أم رحلة خروج؟

27 أكتوبر 2021
نبيل وسارة الشاذلي في "العودة": الأفق المفتوح (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أوصافٌ نقدية عدّة تُقال في "العودة" (2021)، أول وثائقي طويل (76 دقيقة) للمصرية سارة الشاذلي. الحميمية والذاتية أبرز الأوصاف. هناك أيضاً العزلة والتعارف والتواصل بين أفراد عائلة واحدة، وصولاً إلى الاغتسال من ثقل أيامٍ وتجارب وعلاقات، بحثاً عن مرحلة جديدة من العيش، أو رغبة في مواجهة مرحلة وحالاتٍ سابقة، لفهمها، أو لكشف خفاياها، أو لتعرية شيءٍ منها، أو لسرد بعض منها.

لكنْ، هل ترغب سارة الشاذلي في هذا كلّه؟ أم أنّ رغبتها في لقاء والديها في القاهرة دافعٌ إلى تصوير لحظاتٍ، يغلب عليها الحميميّ والذاتيّ في التقاط جوانب مختلفة، في الماديّ (المنزل وفضاؤه، الجسد وحركاته، تفاصيل دقيقة لأشياء عدّة، الموسيقى، المشهد الخارجي، المنطقة حيث مبنى المنزل العائلي، إلخ.) والروحيّ (كلامٌ عن مرضٍ ووباء وتحدّيات وتساؤلات)؟

يكشف "العودة" هذا كلّه بأسلوب بسيط وهادئ، وبكاميرا صغيرة، وبعينين مفتوحتين على وسعهما لاكتشافٍ ونظراتٍ وتمعّنٍ في أحوال آنيّة، متأتية من سيرة مديدة. "العودة" يقول شيئاً من هذا بصُوَر ولقطات، بعضها طويل قليلاً، إذْ لا فائدة من دقائق عدّة عن رقصٍ أو غناءٍ أو طبخٍ، قبل التيقّن من أنّ الإطالة مندرجة في سياق بصري، يجمع هوامش كثيرة ليوثِّق عالماً أليفاً لأفراد عائلة واحدة.

للكلام، بين سارة الشاذلي ووالدها نبيل تحديداً، حضورٌ يكاد يتساوى والصمت الذي، بمساحته الخاصة في السرد البصري، يُصبح أشبه بكلامٍ تقوله صُوَر ومَشاهد. الوالدة، ماريان خوري، منعزلةٌ في غرفتها، بانتظار التأكّد من عدم إصابتها بكورونا (تصل سارة إلى القاهرة في مارس/ آذار 2020، من دون تحديد اليوم، مع بداية أول عزلة منزلية في المدينة). كلامٌ عفوي أمام كاميرا غير عفوية، إذْ تكشف عدستها تمكّناً من ملاحقة الأشياء والكلمات والمناخ، ودقّةً في توليفٍ (سارة الشاذلي، المُصوّرة وكاتبة السيناريو والمشاركة مع والديها في الإنتاج، إلى جانب "أفلام مصر العالمية")، يوحي ببساطةٍ لن تحول دون متابعة هادئة لسيرة تلك العائلة بعينيّ الابنة.

بعض تلك السيرة يُشكِّل نواة درامية للوثائقيّ "إحكيلي" (2019)، لماريان خوري. نواة ترتكز على حوار طويل مع سارة، في غرفٍ ومدنٍ وفضاءات مفتوحة على مسار وتاريخ وذاكرة وراهنٍ. كأنّ "إحكيلي" تحريضٌ للشابّة على استكمال جانبٍ آخر من السيرة، أو على قول شيءٍ حميميّ وذاتيّ منها، ينبثق من اختبار إمكانية تخزين حكايات وحالات وانفعالات في صُوَر متتالية، تبدو أولاً مجرّد صُوَر عائلية بحتة، لتصل إلى خاتمةٍ تقول إنّ "العودة" ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ يُخرج العائليّ من عزلته وحميميّته وذاتيّته، إلى حكاية مفتوحة على هواجس وتساؤلات، كخروج أفراد العائلة أنفسهم من تلك العزلة إلى شاطئ وبحر ومدى واسع.

 

 

بساطة "العودة" في مقاربة مسائل وحكايات تقول إنّ كلّ ترميزٍ غير ملائم لهما (البساطة والفيلم). الخروج من العزلة عادي للغاية، بعد وقتٍ على التقوقع في منزل يُطلّ على جوانب من القاهرة، من علوٍّ يشي بإطلالة تلتقط فراغاً وهدوءاً، كالتقاطها وقائع عيشٍ يوميّ من دون عزلةٍ. بساطة مُريحة في سردها وتصويرها وتوليف مشاهدها، وفي كلامٍ وبوحٍ وتواصل، وفي عزلة يليها خروج إلى ذاك المدى المفتوح، كعينيّ سارة خلف الكاميرا، اللتين تريدان جمع كلّ شيءٍ دفعة واحدة، قبل غربلتها وانتزاع بعضها لتشكيل مسار درامي متماسك ببساطته الفنية والجمالية، وبعمق حميميته وذاتيته، وهاتان الحميمية والذاتية لن تحولا دون مرافقةٍ غير سهلة، رغم البساطة نفسها.

فالمرافقة مطالبة بالتنبّه إلى الحدّ الفاصل بين ما يُظنّ أنّه رتابة، وما يحدث أمام العدسة، وفي عمق ما يحدث أيضاً. تصوير عائليّ، مليء بالحميمية والذاتية، دافعٌ إلى تساؤل عن فائدة ذلك في سينما، يزداد تعمّقها في أحوال أفرادٍ مع عائلاتهم، وأحوال الأفراد والعائلات مع راهنٍ وماضٍ، وفي الراهن والماضي تساؤلات، معظمها غير محسوم. التعمّق السينمائي في حالةٍ كهذه ردٌّ على أولوية القطع مع ما يُظنّ أنّه رتابة، فهذا جزءٌ من لعبة بصرية، تمتحن المُشاهد لإدراك قدراته على التوغّل في الحميمي والذاتي، وإنْ يبتعدان عنه وعن انفعالاته وهواجسه وتساؤلاته الخاصّة. اللعبة البصرية تشي بأنّ اللاحق لهذه الدقيقة أو لتلك اللقطة مختلفٌ أو متشابهٌ، والمتابعة وحدها كفيلةٌ بكشف الآتي من صُوَر ولقطات وأقوال وحركات وسلوك ونبرة.

في ختام "العودة"، تكتب سارة الشاذلي أنّها، بعد 10 أعوام من العيش خارج الوطن، تشعر للمرّة الأولى بأنّ قرار عودتها إلى بلدها صحيح: "بعد فترة وجيزة على رحلتي الأخيرة مع والدي، أُقرِّر الانتقال من شقّة أهلي لأبدأ حياة جديدة لي في مصر". قولٌ كهذا يوحي بأنّ سارة ترغب في مشاركة آخرين في رحلة الخروج، لا العودة فقط، من عالمٍ، تريد تحرّراً منّه، أيّاً يكن شكل التحرّر ومُسبّباته، والأشياء الدافعة إليه. الحميمي والذاتي يعكسان سلاسة علاقة عائلية، تتناقض ورغبة التحرّر. لكن خطوة الانتقال من شقّة الأهل، بعد 10 أعوام من الاغتراب، غير سهلةٍ، رغم كلّ شيءٍ، وبسبب كلّ شيء أيضاً.

مع سارة الشاذلي، تُصبح العودة خروجاً يمتلك حساسية صورة، ونبض صمت، وجمال أفق مفتوح على احتمالات واختبارات.

المساهمون