انتهت أم كلثوم من تقديم وصلتها الغنائية على مسرح أبو شاكوش في مدينة يافا، فأخبرها بعض المحيطين بها أن بين من حضروا للاستماع إليها طفلاً لم يجاوز عشر سنوات، يتمتع بصوت جميل وأداء غنائي محكم، بعد أن أتقن العزف على العود في هذه السن المبكرة. وعلى وجه السرعة، كان الطفل روحي الخماش ماثلاً بين يدي الآنسة أم كلثوم، ليسمعها مونولوغ "سكت والدمع اتكلم" الذي لحنه لها محمد القصبجي.
أبدت أم كلثوم إعجاباً شديداً بالطفل الموهوب، وتنبأت له بمستقبل موسيقي مشرق. قبل تلك الواقعة بعدة أشهر، وتحديداً عام 1932، وضمن فعاليات المعرض الفني العربي الذي أقيم في القدس، استمع عازف الكمان الأشهر، سامي الشوا، إلى الصبي روحي، فانبهر بتمكنه، وشجعه على صقل موهبته بالدراسة والتمرين. تكرر الموقف مع عدد من كبار أهل الفن، الذين كانوا يترددون على المدن الفلسطينية، وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب. كانت تلك الوقائع إرهاصات منبئة بميلاد أحد أهم الموسيقيين في تاريخ فلسطين.
لعل ما يلفت الباحث في سيرة روحي الخماش (1923 - 1998) يتمثل في قدرته الفائقة على التحصيل والتعلم السريع. بدأ في تعلم آلة العود وهو ابن ست سنوات، ولم يمر عام واحد حتى كان بمقدوره عزف عدد من البشارف والسماعيات التركية، كما حفظ عدداً من الموشحات والأدوار المصرية، ثم جاءت الخطوة التالية حين قدمه أبوه إلى المستمعين في حفل عام، يحضره جمهور من مختلف المدن الفلسطينية، لينتزع الطفل الفنان كل أشكال الإعجاب والتقدير، بعد أن ظهر في صورة مغنٍ وعازف مكتمل، يؤدي أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب، وهو دون العاشرة. كانت الأجواء الفنية في فلسطين مواتية وثرية، حيث تجد المواهب ما تستحق من رعاية وتشجيع، وجماهير تنصت وتقدر.
ومبكراً أيضاً، طار حديث الطفل الأعجوبة إلى العراق، فسمع به الملك غازي (حكم بين 1933 و1939) وأرسل في طلبه، ليحظى بضيافة ملكية مدة ستة أشهر، استمع خلالها الملك إلى صوته وعزفه، فنال إعجابه وتقديره، وكافأه بمبلغ كبير من المال، بل أهداه ساعته الشخصية. في بغداد، قدم الخماش عدداً من العروض لطلاب المدارس. وأيضاً، كانت هذه الزيارة إرهاصاً مبكراً لعلاقة استثنائية ستنشأ بينه وبين الشعب العراقي.
وعند انطلاق بث الإذاعة الفلسطينية الأولى عام 1936، كان الخماش في طليعة فنانيها. لكن نيل الاعتراف الفني لا يكتمل إلا في القاهرة، وإليها وصل روحي الخماش عام 1937، ليلتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية. ومن شروط الالتحاق بالمعهد، اجتياز اختبار القبول.
وكان اختبار الخماش أمام لجنة مؤلفة من كبار الموسيقيين، وفي مقدمتهم الشيخ درويش الحريري، وصفر بك علي المعاون الفني، ومحمود أحمد الحفني المعاون الإداري، والمسيو كوسناكس مدرس النوتة الموسيقية ونظريات الموسيقى، وفؤاد الإسكندراني مدرس الغناء. بعد عامين فقط، تخرج الخماش من المعهد، وقفل راجعاً إلى القدس، ليواصل عمله مع فرقة الإذاعة. حصّل في عامين ما يحتاج الدارسون إلى ستة أعوام لتحصيله.. وكان عام تخرجه هو عام تعيينه رئيساً للفرقة الموسيقية الإذاعية.
استمر الخماش في عمله قائداً لفرقة إذاعة القدس حتى عام 1948، الذي يمثل تاريخاً مفصلياً في مسيرته الفنية، بعد أن قبل دعوة للإقامة في العراق. فعقب النكبة الفلسطينية، وتعرض إذاعة القدس للتخريب، رجع الخماش إلى مسقط رأسه مدينة نابلس، وكان الحاكم العسكري للمدينة الضابط العراقي طاهر الزبيدي، الذي وثق علاقته بالخماش ودعاه إلى المشاركة في إحياء عدد من الحفلات الموسيقية للجيش العراقي.
طرح الزبيدي على الفنان الفلسطيني فكرة تنظيم زيارة إلى بغداد، ومنحه تصريحاً عسكرياً لتسهيل مهمة وصوله إلى العراق فقبل. وبالفعل، سافر إلى بغداد بصحبة مجموعة من الفنانين العراقيين الذين جاؤوا إلى فلسطين خلال تلك الفترة لإحياء حفلات فنية لأفراد الجيش العراقي. وصل الخماش وشقيقتاه إلى بغداد في سيارة عسكرية عراقية، صيف عام 1948.
وبمجرد وصول الرجل، لقي من الأوساط الموسيقية العراقية تقديراً كبيراً، فعُيّن على الفور قائداً لفرقة الإذاعة الموسيقية المسائية، التي كانت تقدم أغانيها ومقطوعاتها الموسيقية كل ليلة على الهواء مباشرة، وظل يعمل معها حتى عام 1953، قبل تعيينه مدرساً في معهد الفنون الجميلة، الذي افتتح عام 1936، لتبدأ مرحلة العطاء الكبير، والأثر الضخم لروحي الخماش على الحياة الموسيقية العراقية.
كان وجود الخماش في بغداد فرصة للقاء أستاذ الموشحات العربية الشيخ علي الدرويش الذي عمل معه في إذاعة القدس. ومعاً، ورغم فارق السن الكبير، أسس الرجلان فرقة الموشحات، لتتخصص في الحفاظ على هذا اللون التراثي المهم في معهد الفنون الجميلة، قبل أن يتحول اسمها عام 1961 إلى فرقة أبناء دجلة، كما أسس الخماش فرقة الإنشاد العراقية، وأيضاً عمل أستاذاً لتدريس العزف على العود بالمعهد.
وينقل وكيل وزارة الثقافة العراقية، حبيب ظاهر العباس، عن الخماش، تفاصيل لقائه بالشيخ علي الدرويش في بغداد. يقول الخماش: "دخلت دار الإذاعة العراقية قاصداً مديرها حسين الرحال وأنا أحمل له رسالة توصية لتسهيل مهمتي. ومن بعيد، شاهدت شخصاً طاعناً في السن يجلس إلى جوار مدير الإذاعة. وعندما اقتربت، فوجئت أنه الأستاذ الجليل الشيخ علي الدرويش أستاذ الموشحات الكبير المعروف، الذي قدمني إلى رئيس الإذاعة خير تقديم، بعد أن كال لي المديح والثناء، فأمسكت بيده المرتعشة، وكان يحمل كتابه عن الموشحات، الذي مثل لي العون الأكبر في حفظ أكثر الموشحات العربية، والتعرف إلى أصول تلحينها ومقاماتها وضروبها الإيقاعية".
كان الخماش مطرباً يمتلك صوتاً جميلا، وكان عازفاً بارعاً على العود، كما كان ملحناً ومؤلفاً موسيقياً، وضع ألحان ثلاثين موشحاً منها: "هات يا محبوبي كأسي"، و"يا مليحاً بالتثني"، و"أجفوة أم دلال"، كما وضع ألحان سبعة ابتهالات دينية، منها "لبيك قد لبيت لك"، و"يا من يحار المرء من قدرتك"، و"حكمة الصوم"، ولحن ثمانية أناشيد وطنية منها "وطن واحد"، و"أخي العربي"، و"جيش أوطاني المظفر". وفي مجال التأليف الموسيقي، وضع أربع سماعيات ولونغا واحدة، إضافة إلى سبع عشرة مقطوعة موسيقية، منها "شم النسيم"، و"ضفاف دجلة"، و"أفراح الشباب".
ومن محطات تفوق الخماش أنه وبعد تأسيسه فرقة الإنشاد العراقية عام 1971، وضع ألحان عدة موشحات أدتها الفرقة، كان أولها: "حبيبي عاد لي" و"حبيبي لا تطل هجري" و"يا هلالاً"، وقد فازت الموشحات الثلاثة في مسابقة الغناء العربي في تونس عام 1976 بالجائزة الأولى بين الموشحات التي أدتها الفرق العربية الأخرى من مصر وسورية والمغرب والجزائر وتونس.
وترصد الباحثة المتخصصة في تاريخ روحي الخماش، فاطمة الظاهر، بعض الأصوات التي عرفها العراق عبر فرقة الإنشاد، واتسعت شهرتها لاحقاً بعد عدة سنوات من العمل في هذه الفرقة ومنهم: جميل سليم، ومحمد كريم، وناظم الغزالي، ورضا علي، خالدة، وأحمد الخليل الذي كان يساعد الخماش في تحفيظ الألحان لبقية أعضاء الفرقة.
ولا ينسى العراقيون فرقة خماسي الإذاعة، أو خماسي الفنون الجميلة، التي أنشأها الخماش، وأخذت على عاتقها مسؤولية حفظ التراث العراقي والعربي وتسجيله، وينظر إليها كثيرون باعتبارها فرقة قامت بدور عملاق ومهم لفي تاريخ العراق الموسيقي المعاصر. ولعلها كانت المبرر لأن يقول عازف العود العراقي الشهير منير بشير: "أنا مطمئن على الموسيقى في العراق لوجود المعلم الكبير روحي الخماش".
ولد روحي الخماش في نابلس عام 1923، لكنه لم يلق في مئوية ميلاده ما يستحق من احتفال واحتفاء، لا سيما مع زيادة الاهتمام بأعماله التي بدأت الأجيال الجديدة في إعادة اكتشافها. ومنذ عدة سنوات، اهتمت المؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية "نوى" بتراث الخماش، وسجلت الأسطوانة الأولى من ألحانه في سياق برنامج أطلقته المؤسسة بعنوان "هنا القدس"، بهدف الحفاظ على التراث الموسيقي العربي في فلسطين، من خلال إعادة إنتاج مؤلفات الموسيقيين الفلسطينيين الرواد.
بالمولد والنشأة، يبقى الخماش علماً من أعلام فلسطين، وبالمسيرة والعطاء اعتبره العراقيون واحداً منهم، وحينما رحل عن عالمنا عام 1998، احتضنته مقبرة الكرخ في بغداد، بعد تشييع لائق نظمته نقابة الموسيقيين العراقيين. كان الخماش نغماً فلسطينياً، أبدعته نابلس، قبل أن يجد في بغداد مسكنه.