روبرت غرايفز بحسب وليام نونَيْز: شخصيّة مُركّبة وقلبٌ معقّد

04 مايو 2022
ديانا أغرون: امرأة حداثيّة ذات سحرٍ خاص (Axelle/Bauer-Griffin/FilmMagic)
+ الخط -

 

شارك الشاعر والكاتب البريطاني روبرت غرايفز (1895 ـ 1985) في خطوط المواجهة الأمامية، في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918). أصيب بشظايا قذيفة، وأعلنت كتيبته عن وفاته. لكنّه عاد إلى الحياة مجدّداً، بعد شفائه من جروحه الخطرة. لم تُغادره مَشاهد الموت والدمار، وأصوات الرصاص والقذائف، ومناظر الدماء، أبداً، بل رسخت في عقله الباطن. استحضرها في واقعه وأحلامه، وأصابته بعِقدٍ نفسية، أثّرت على حياته ومساره. بعدها، بدأ كتابة نصوصٍ شعرية عن الحرب ومآسيها، من منطلق شخصي، واصفاً مواجهته المباشرة للموت، والأهوال التي عاشها وخبرها.

اشتهرت كتابات غرايفز، في الوسط الثقافي، بكونها "أدب الحرب". لكنّه تخلى عن هذا التيار الأدبي، واختبر مغامرات شعرية تجريبية جديدة، أحدث عبرها قطيعةً مع التجارب السابقة، وأسّس بها بُعداً شعرياً جديداً، لفت إليه أنظار مختصّين عديدين.

في "الفائز" (2021)، أعاد الأميركي وليام نونَيْز اكتشاف غرايفز (توم هيوز)، مُقدّماً إياه بطريقة مختلفة، ومختاراً طريقة صعبة ومُعقّدة في تقديمه، بذهابه إلى تراكماته النفسية، وفوضاه الداخلية، وهلاوسه وعِقده، ومُظهراً طقوس الكتابة التي عاشها في مرحلة ما بعد صدمة الحرب. طريقة معالجته الإخراجية يصعب التنبؤ بنتائجها، لأنّها تهتمّ كثيراً بالجانب النفسي، وتُركّز على طقوس كتابته، خاصة أنّ حياة الشاعر بعد الحرب مليئة بالعلاقات غير العادية، التي أصبحت مصدر نميمة يتمّ تداولها في الوسطين الثقافي والأدبي، وبين العامة: علاقته مع زوجته الرسّامة الإنكليزية نانسي نيكلسون (1899 ـ 1977)، وعلاقته مع عشيقته ومُلهمته الكاتبة والناشطة النسوية الأميركية لورا رايدنغ (1901 ـ 1991)، التي دعاها إلى منزله، ولم يعتقدا، زوجته نيكلسون (لورا هادِك) وهو، بأنّها ستُلبّيها.

دعوته رايدنغ (ديانا أغرون) هدفت إلى تأطيره شعرياً، وتفجير طاقته الأدبية. لكنّها، بعد اطّلاعها على تجربته الشعرية الأولى، وجدت فيها اختلافاً ورؤى جديدة. لهذا، لبّت الدعوة وسافرت إليه، وأقامت معه في بيته الريفي، وبدأت تعمل على موهبته. وسط كلّ هذا، نشأت بينهما علاقة عاطفية، حاول مقاومتها في البداية، لكنّه فشل، فخضع لها، وأعلم زوجته بالعلاقة، غير أنّها لم تحتج، إذْ رأت تحسَّن حالته النفسية، وخروجه من "حبسة الكتابة". بالإضافة إلى أنّ لورا باتت "موديل رسم" لها، كما أقامت معها علاقة عاطفية عابرة.

ابتكر المخرج والسيناريست نونَيْز دراميّة الأحداث من المواقف الحياتية المعقدة التي عاشتها الشخصيات، غير المُخترعة لوجودها في الحياة الثقافية حينها، ولا تزال إلى اليوم تُثير حولها أسئلة واحتمالات عدّة، ولا تزال أعمال هؤلاء، الأدبية والفكرية، حاضرة بقوّة، رغم مرور أكثر من قرن على ظهورها. رتّب نونَيْز هذا كلّه وفقاً للسياق الدرامي للفيلم ولإيقاعه، وجعل الأحداث تلتفّ حول الشاعر، الأكثر تعقيداً وفوضى. هكذا ظهرت موهبة المخرج، الذي له معرفة واسعة بالمسائل المرتبطة بالموضوع، وأثّثها بمواقف أدبية وفكرية عدّة، مُضيئاً فترة تاريخية مهمّة في المشهدين السياسي والأدبي الإنكليزيين. كما أنّه تناول بعض الشخصيات النقدية المهمّة سريعاً، مع إشارات قوية، لها دلالات عميقة، كتوظيفه شخصية الناقد والكاتب الأميركي البريطاني تي. أس. أليوت (1888 ـ 1965، كريستن أنْهولت)، الذي استعمل قلمه الحادّ لوأد مشروع التيّار الشعري، الذي رفعته جماعة لورا رايدنغ، مع غرايفز والشاعر الإيرلندي جيوفري فيبس (1900 ـ 1956، فْرا فِي). وهذا بعد رفضها إقامة علاقة عاطفية معه، فاستخدم اسمه ومكانته الأدبية لمحاربتها.

بهذا، ظهرت الحرية المطلقة لوليام نونَيْز في توظيف الجوانب التاريخية المُغيّبة، وهدم الصُوَر المثالية المرسومة عن بعض الشخصيات. في الوقت نفسه، برز الجهد الكبير في عملية البحث والتقصّي في مسار كلّ شخصية، سلوكياً وأدبياً وفيزيائياً، ثم جُمعت نتائج البحث، وشُكِّلت في قالب واحد، وقُدّمت ـ بعد تجهيزها جيداً ـ إلى المتلقي، فيقبلها أو يرفضها. مع "الفائز" (The Laureate)، ظهرت نتيجة الجهد لصالحه، لأنّه أشبع الشخصيات بالسلوك السوي للإنسان، الذي يُخطئ ويُصيب، ولم يُمجِّد الشخصية المثالية المقدسة، وهذا المنطلق (التمجيد) يقتل العمل الابداعي، ويبدّد الموضوع، ويقضي على مصداقيته. هذا المعطى السلبي ابتعد عنه نونَيْز، ققدّم الشخصيات وفقاً لسياقها الصحيح.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

لم يكتفِ وليام نونَيْز بحاضر روبرت غرايفز، والفضاء الذي عاش فيه، بل انتقل عبره إلى وقائع الحرب التي عاشها، بتصويره مَشاهد سريعة حين كان جريحاً في الجبهة، مُستنداً إلى عمود، وتحيط به المتاريس والأسلاك الشائكة، مع ضباب متفرّق، وهذا كلّه كي يضع المتلقّي في الصورة الحقيقية للشخصية، جاعلاً المشهد لازمةً يعود إليها في كلّ حالة، ليُظهر الألم الكبير الذي أصابه، ومدى تأثير التجربة على مساره الحياتي والأدبي. كما ركّز على الدور الكبير لزوجته نانسي، ابنة الرسّامَيْن المشهورين السير وليام نيكلسن ومايبل برايد، حين وقفت إلى جانبه في أحلك محطات حياته، خاصة أنّه لم يكن يملك أي دخل مادي. هي شجّعته ليستمرّ ويُطوّر موهبته، ويحوّل الكتابة إلى مصدر دخل له.

رغم أهمية السيرة والتركيز عليها، لم يُهمل وليام نونَيْز الجانب البصري لتلك المرحلة التاريخية، من الملابس والمناظر العامّة وديكور البيت والفضاءات التي تستغلها الشخصيات. كما لعب على خاصيّة النور والظلام، لإظهار سحر الفضاءات، بالإضافة إلى استغلاله الطبيعة الساحرة للريف الإنكليزي، الذي ربطه مع الشخصية الإبداعية. لهذا، ضُبطَت إطارات بصرية مختارة بعناية فائقة، غنيّة بألوان الزهور وجذوع الأشجار القديمة، وبالخضرة الممتدة، والضباب الذي يتخلّلها. مَشاهد تخدم، بشكل كبير، هوية الفيلم وماهيته.

من العناصر المهمّة التي شكّلت الهوية الفنية لـ"الفائز"، وساعدت على إنجازه بالشكل المطلوب، ما قام به الممثلون توم هيوز ولورا هادِك وديانا أغرون، الذين تعاملوا مع الشخصيات المركّبة والمعقّدة، والمليئة بالاضطرابات النفسية، بكلّ مسؤولية، وأزاحوا الشعرة التي تفصل هويتهم الأصلية عن الشخصيات، خاصّة هادِك، التي عكست الزوجة الهادئة والمتفهّمة لزوجها، وفي الوقت نفسه تحمل في قلبها هموماً عدّة، لغياب التواصل الجسدي بينهما، بسبب ما خلّفته الحرب في نفسيّته. لكنّ هذه الهموم لم تُجسَّد كأحداثٍ، بل تمثّلت فقط في ملامح وجهها، كمرآة عاكسة لعواطفها. هيوز اجتهد في أداء شخصية الرجل المليء بالعقد، والشاعر العاجز أمام الورقة البيضاء، والخائن الذي يعيش نوعاً من تأنيب الضمير، والمُحبّ الذي قسّم قلبه على امرأتين. أما أغرون، فعكست توجّه المرأة الحداثية، التي لا تحب صُور الماضي ومآسيه، ولديها منطلق مغاير للمتوقّع، وسحرٌ تصعب مقاومته ومجابهته. لذا، مالت إليها قلوبٌ كثيرة.

المساهمون