تعددت الآراء حول الشخصية الرئيسة في مسلسل "رايتشِد"، وصاحبة الأفيش، الممرضة ميلدرد رايتشِد، التي قدمتها إلى الشاشة العنكبوتية سارة بولسن إحدى الممثلات التي يعتمد عليهن راين ميرفي، صاحب هذا المسلسل الجديد، بعد عدة أعمال ناجحة مع منصة نتفليكس، كـ "السياسي" The politician، وقصة رعب أميركية American horror story، والمسلسل الذهبي "هوليوود". اعتبر بعض المراقبين الممرضة رايتشِد مملة، في حين رآها البعض الآخر تمثيلَ الشر الأعظم، فيما رأى بعض النقاد أنها تمثل الأم الحاقدة، كما ذهب البعض إلى اعتبار المسلسل بطيئاً ومملاً وذا قصة غير مفهومة، أو ذا تسلسل للأحداث غير واضح.
عمل راين ميرفي مع إيفان رومانسكي على كتابة هذا المسلسل الجديد، والذي اعتبر بعض النقاد وجوده في العمل "لعدم شهرته في هوليوود"، جانباً سلبياً أضاف إلى الانتقادات التي وُجهت للمسلسل.
سحب ميرفي شخصية رايتشِد من فيلم "الطيران فوق عش الوقواق" (1975)، للمخرج الأميركي ميلوش فورمان، المأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه (1962)، لكين كايزي، الذي قدم في روايته شخصية مبالغة عن ممرضة حقيقية في مستشفى للأمراض العقلية في ولاية أوريغون، كان يعمل فيه عندما كان شاباً.
يقدم المسلسل القصة الأصل، أو حكاية ما قبل الأحداث لهذه الشخصية، قبل أن تتحول إلى تلك الممرضة الصارمة واللئيمة التي يكرهها الجميع. طلبت هوليوود من ميرفي تقديم الجزأين الأول والثاني دفعة واحدة ضمن الصفقة الضخمة لمجموعة الأعمال المشتركة بينهما، ودار الاتفاق حول تقديم القصة الأصل لرايتشِد ضمن مبدأ كيف يصنع الشرير، أو كيف تتم صناعة الشر؟ لمحاولة فهم سبب لؤم وصرامة وشر هذه الممرضة.
كان الدور مكروهاً جداً لدرجة أن عدداً من الممثلات رفضن القيام بتلك الشخصية في الفيلم، إلا أن ممثلته لويز فليتشر حازت على أوسكار أفضل ممثلة عن الدور، وكانت الجائزة مفاجئة جداً، حتى أن فلتشر قالت إنها استغربت حصولها على جائزة بسبب قلة حب الناس لها، كما أنها اشتكت في لقاءات من صعوبة تمثيل الشخصية وكتابتها الرديئة المبهمة وغير النافذة، وشهد كيزي على ذلك عندما قال في أحد اللقاءات إنه كان يفضل إعادة كتابة الشخصية لجعلها إنسانية وطبيعية بشكل أكبر.
حاول ميرفي تجاوز الأخطاء التي وقع فيها كيزي وفورمان، وقرر تقديم القصة الأصل لشخصية نسائية شريرة من وجهة نظره المحدثة والحرة، وأخذ الشخصية إلى أماكن جديدة، وهو أمر غير اعتيادي.
لكننا رأينا الكثير من الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي تعود إلى منبع الشرور في الشخصيات ضد البطل، في ميل نحو تفهم ومعرفة الشخص الشرير: أي صحيح أن بطل العمل شرير ويقوم بأفعال لا تجوز أبداً، لكنه كان طفلاً في الماضي، كان خيّراً يأمل بمستقبل مشرق، لكن الحياة، أو التربية، أو حادثة ما... جعلته بهذه الطريقة، كفيلم "جوكر" الذي حاز واكين فينيكس على دوره أوسكار أفضل ممثل، وشخصيات مدينة الخطيئة sin city، وشخصية تايلر دردن في فيلم "نادي القتال"، Fight club ومايكل كورليوني في فيلم "العراب" The godfather. هناك عدد لا نهائي للأعمال الفنية المرئية التي تتحدث عن القصة الأصل لذكور، في حين قلت تلك الأعمال جداً بالنسبة للشخصيات النسائية، ما يعيدنا إلى النقاش الذي حاول ميرفي توضيحه في مسلسله "هوليوود".
ولهذا، نرى منذ بداية المسلسل، القطع السينمائي العريض الذي يظهر بانوراما ساحرة كلوحات إدوارد هوبر، ليمثل فترة الأربعينيات بالشكل الأكثر تناسقاً وإغراءً، وليعبر عن قسوة وشدة الواقع أمام الإنسان الضوضائي، مع استخدامات لتدرجات الأخضر كحامل للعنف والطمع والكره، من دون استخدام الأحمر إلا للدماء، أو أحمر شفاه ميلدرد، وأثاث الميد سنشري في أروع أشكاله وأكثرها دقة، لتتجاوب مع ملابس المصممة الدائمة مع ميرفي، لو إيريش، وشريكتها ريبيكا غوتسي المصنوعة، خصيصاً لتعكس حالة الشخصيات وحالة الممرضات والقطاع الطبي.
نمضي في العمل مع شخصية رايتشِد الباحثة عن عمل بأفضل أشكالها، إلى أن تبدأ سريعاً صورة الممرضة النشيطة بالانهيار أمام صورة الشخصية الطماعة والظلامية. لكننا نرى خلال مسار المسلسل أحداثاً تشرح لنا أصل ذلك الشر، وعدم رغبة الحياة بتقديم أي فرصة إيجابية لميلدرد وشركائها.
تحاول رايتشِد البقاء صامتة عما حدث لها، فالعالم غير منصف وتريد الاقتصاص منه، لكن سرعان ما نكتشف المصائب التي عاشتها، ولهذا نتقبلها. ويطرح التساؤل: هل يبرر ذلك الماضي أفعالها المستقبلية وأفعال إدموند تولسن الذي أدى دوره الممثل الوسيم فين ويتروك؟ بالطبع نعم، ما عاشاه لا يمكن تحمله أبداً. في الواقع، نتفهم بشدة هذه الشخصيات كما تم تقديمها ونحزن لمصيرها.
يرد ميرفي مرة أخرى على الممارسات الطبية الجائرة، ويقدم لنا صوراً عن عنف القطاع الطبي، وهي موضوعة دائمة لدى راين ميرفي، حيث رأيناها في مسلسل "نيب تاك" Nip tuck، والجزء الثاني من قصة رعب أميركي المعنون "أسايلم"، أو مستشفى المجانين المشابه جداً لـ رايتشِد. انتقد ميرفي استخدامات طبية يمكن اعتبارها تعذيباً وقتلاً للمرضى كعملية، استئصال الفص من العين، وغلي أجسام المرضى لقلب هوياتهم الجنسية، وغيرها من الاستخدامات المؤذية التي يفرضها العلم لخلق مجتمع فعال. ولم تتوقف أمثلته عن مغنية الأوبرا وممثل المسرح المريضين، بل وضع شخصية غويندولين بريجز التي مثلتها سينثيا نيكسون، أو ميراندا، لنتعرف على صراعات أخرى للمرأة في ظل المجتمع الذكوري القاسي غير المتقبل للآخر في الأربعينيات.
عمل ميرفي على تقديم نسخة مرعبة من الفيلم بسيطرته التامة على كل حركة في المسلسل وجمالياته الحادة، كما تعدد استخدام قطع موسيقية للمؤلف برنارد هيرمان كان قد ألفها وقدمها لفيلم "سايكو" لألفرد هيتشكوك. ولم يبخل علينا بوضع شخصيات ساحرة ومريضة تشبه مسلسله "أسايلم"، كشخصية شارون ستون التي تبدو مأخوذة من فيلم "سانسيت بولفارد" (1950)، لبيلي وايلدر، وقردها وابنها السادي السيئ، وشخصية الطبيب ريتشارد هانوفر التي أداها الممثل الدائم أيضاً مع ميرفي، جون جون بريونز، الذي يمثل الأطباء المجربين الذين يعذبون البشر.
كما لا يمكن أن ننسى الممرضة الرئيسة، بتسي باكيت، التي أدت دورها جودي ديفيس، الصارمة والحيادية والوحيدة، كتذكير بالنساء العاملات المرغوبات، أو كتمثيل لـ "نساء المؤسسة".
قدم رومانسكي وميرفي عدداً من الشخصيات الحاضرة في المخيلة، كالممرضة دولي التي مثلتها أليس إنجليرت، وكانت توأم إدموند تولسن في المسلسل، وتشارلز واينرايت التي مثلها كوري ستول، كنظير مشابه لرايتشِد بصيغتها المذكرة.
في حال كانت رايتشِد شريرة أم بطلة عاشت ظروفاً صعبة، يقدم المسلسل صورة مختلفة أخرجتها من حالة الصرامة المملة التي شاهدناها في الفيلم والرواية، لتضع المشاهد أمام واقع قاتم وفوضوي على الرغم من جمالياته الواضحة.