من دير القمر إلى منطقة السوديكو في مدينة بيروت، نُقلَت حجارة بيت نقولا بركات، لترفع أساسات ذلك البيت الأصفر الذي شيده يوسف أفتيموس عام 1923، المهندس الذي سيرحل قبل أن يعاين مخالب القذائف والرصاص وهي تعيد تشكيل مداميكه، فنراه اليوم صامتاً ذا جدران "مخردقة" توثق مقولة "من هنا مرّت الحرب".
لم تكن صدفة أنْ يُقيم الفنان رالف الحجّ معرضه "تاريخ ثلاث حروب" في البناء نفسه الذي أصبح عام 2003 متحف "بيت بيروت"، فمعرض الحجّ يبدأ من اللحظة التي يرتسم فيها البناء في المنظور، مروراً بمدخل المتحف وجدرانهِ التي تعضّ على الرصاص، وصولاً إلى قاعة العرض في الطابق الثالث حيث نُصبَتْ سبعُ لوحات رقميّة، بالإضافة إلى صور ونصوص، عكسَ فيها الفنان ذكريات جدّته حول الحرب العالمية الأولى والمجاعة في لبنان (1915-1918)، وما عاشه خلال الحرب الأهليّة (1975-1990)، مروراً بانفجار مرفأ بيروت (2020)، الذي أُقيم المعرض في ذكراه الثالثة، واستشرافاً لمستقبلٍ لا يبشّر بما يطوي مآسي الماضي، بل يعزز توقعات الحرب.
قال رالف الحج إن "الفن يتساوى مع أي وسيلة أخرى للاعتراض والتعبير"، وأشار إلى أنّ "الإنسان في حاجة دائمة لصياغة تصوراته وتعاريفه للوجود، ومخاوفه من عبثية الحياة وجنون أحداثها، خاصّة بالنسبة للإنسان الذي لطالما امتطى العقل لبلوغ مَنطِقهِ المنشود، وللإتيان بقانون عام تشترك فيه كل القوانين، فيفهم من خلاله تداخل العوالم من حوله، وبالتالي تفسير ماهية ذاته كبشريّ، بما يشبه نظرية لوغوس عند هيراقليطس الذي يعلل ويشرح الموجودات التي تمتثل له في الآن نفسه... بناء معنى في خضم المأساة التي لا معنى لها".
ومن هنا تنطلق قصة رالف الحجّ مع حروبه الثلاث، وبالتحديد من مجموعة صور التقطها لبيته المدمر في اليوم الثاني لانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020. هذا الانفجار دمر بيت الحج مع جزء كبير من مدينة بيروت وأهراءاتها وما تبقى من حياة فيها.
وقال الحج لـ"العربي الجديد": "كوّنت هذه الصور لدي خريطة ذهنية، وقد ربطتُ هذه الأشياء المصوّرة بسياقها، لإعادة بناء الأحداث التي أدت إلى هذه الكارثة".
اعتمد الفنان اللوحة الرقميّة لمدّ فضاءات رحبة تتسع لمكونات أعماله، والتي يمكن اعتبارها أعمالاً أخرى، فلقد استخدم برنامج "فوتوشوب" ليجمع ما بين صور التقطها ولونيّات صممها، ثم وظفها في سياق تعبيري يخدم عملاً فنياً أوسع، بحيث تكون هذه الصور أو اللونيات هي بنيويات العمل المطلوب، وبذلك خلق عوالم متداخلة بأعماق متفاوتة شبيهة ترسم صورة مدينة منكوبة بتجميع وجوه ضحاياها وعتمة شوارعها، وهنا تصبح المأساة لسان حال المنطق المبدع، فالجمال، حسب الفيلسوف الألماني هيغل، هو روح تتأمل ذاتها بحريّة متكاملة بلا تفسير أو تبرير.
أمام أعماله وشخوصه الكثيرة المنثورة على مساحات لوحاته، قال الحج: "لا أحبّ أن أخلق علاقة دلالية مباشرة لمعنى العمل الفني، بحيث يشير كل عنصر لمعنى واضح مباشر، فليس هذا تفكير الفنان، فإذا أردت أن تسألني عن تفسيري للأعمال، فلن يكون مميزاً عن تفسير أي متلق، حتى أن تفسيراتي للأعمال تأتي بعد انتهائي منها. العمل يملك كل المقومات ليحكي عن حاله، وبالتالي يسرد حالنا أيضاً".
أما منسّقة المعرض ميّ الحاج، فقالت لـ"العربي الجديد": "أعمل مع الحج منذ أربع سنوات، وأدرك أنه يفكر بالعمل الفني كملحن، فالفرق بين الملحن والرسام في العصر الكلاسيكي هو أنّ الرسام كان مقيّداً بفرشاة الرسم والطلاء والقماش، ما يعني أن أي خطأ، مهما كان بسيطاً، من شأنه أن يعيد العملية من البداية، في حين أنّ الملحن يستطيع مسح وإضافة أي نوتة بأقل مجهود، ما يجعل عملية إنشاء العمل الفني أكثر كفاءة وسرعة، وهذا هو سبب اختيار الفنان للوسائط الرقميّة، ليستطيع إنشاء صور ويتمكن من المسح والتكرار، وهو ما يمنحه الكثير من الحرية".
وأضافت: "على الرغم من استخدام رالف للوسائط الرقميّة، فإنه لا يزال متأثرا بعصر النهضة والباروك، فمفهوم اللوحة الرقميّة غالباً هو غريب أو غير مقبول، لأن اللوحة بالنسبة للأكثريّة عبارة عن ألوان زيتيّة على قماش مشدود، لكن الأعمال الفنية الرقميّة تبقى لوحات لأن الفنان استوفى فيها عناصر اللوحة الكلاسيكية كالمنظور والعمق والإيقاع، بل ويأخذنا إلى عوالم داخلية، والمميز أيضًا في الحج أنه ينتج أعمالاً رقمية، ولكن في الوقت نفسه يحافظ على تاريخ طويل من تقنيات الرسم، فهو ببساطة يكرر ذلك لكن عبر الكمبيوتر".
شارك الفنان جمهور معرضه كتاباً هو سيرة ذاتية مع حروب ثلاث، وفي الوقت نفسه بياناً يرفض من خلاله محاولات فرض رواية مبسّطة للواقع، كما يرفض الالتزام الطوباوي الأعمى الذي تفرضه الشمولية، ويغذّيه الفساد المستشري الذي أوصل لبنان لانفجار زعزع كل ما يمكن أن يُبنى عليه أمل، ويُقدّم نقداً لكل محاولة لتنظيم الواقع المعقّد عبر تعزيز العنف والأيديولوجيات المغلقة التي تخدم الماضي والسرد الشقاقي المزيّف، على حساب الشفافية في قراءة الحاضر لصنع قادم أفضل.
يعرض رالف بين صفحات كتابه صور بيته المنكوب، ويُحاكي بتفاصيل ذكرياته في منزل مدمر من الانفجار ومدينة لا تنفك تأكلها الحداثة الطنانة، على حد تعبيره، فما بين مقبض الباب والتمثال الذي صنعه بعمر السادسة عشرة أثناء الحرب، إلى المكتبة وطاولة السفرة، تنداح الذكريات كاندياح رذاذ الغبار وكسرات الزجاج في بيته، وفي شوارع وبيوت بيروت، وصفحات تاريخ لبنان.
تستمر استضافة "بيت بيروت" للمعرض حتى 30 أغسطس، وسيفتح أبوابه يومياً من الساعة 12 ظهراً حتى 6 مساءً، ما عدا الاثنين.