"خلفية": قليلٌ يصنع وثائقياً حداثوياً مهمّاً

31 يوليو 2023
"خلفية": استنطاق الصورة الفوتوغرافية الجامدة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُحيك السوري خالد عبد الواحد (1975)، بقليل ما لديه يتمثّل بخامات تصويرية وتقنيات تواصل صوتية حديثة، نسيجاً سينمائياً يربط بينه وبين والده، في "خلفية" (2023)، الفائز بالجائزة الكبرى للدورة الـ34 (4 ـ 9 يوليو/تموز 2023) لـ"مهرجان مرسيليا الدولي للفيلم الوثائقي"، مُجرّباً مجاسرة مكانين: مدينة لايبزغ الألمانية، التي وصل إليها الأب طالباً جامعياً قبل نحو 60 عاماً، والمدينة نفسها التي يحلّ فيها لاجئاً، الآن.

الموطن الأول، سورية، لم يعد يجمع أحدهما بالآخر. هذا يدفع خالد عبد الواحد إلى البحث عن وسيلة أخرى، تمهّد الطريق لوصال مُنتظَر مع والده، بعيداً عنها، يبدأ عنده باستعادة وجوده في المكان الذي درس وعاش فيه سنوات من شبابه، والذي صار، بحكم أعاجيب الزمن، قريباً من تفاصيله، ويُمكن له تصحيح وتقويم ما يفوت على ذاكرة والده المُسنّ، المحاط عيشه باضطرابات البلد وحروبه.

أيُمكن حقاً صنع فيلم وثائقي بكَمّ ضئيل جداً من الخامات التصويرية: بضع صُور فوتوغرافية شخصية، وثائق قليلة مستنسخة (جواز سفر، هوية طالب جامعي، صفحات من سجلات قيد جامعي، تسجيلات صوتية قصيرة مُشوّشة ومبتورة أحياناً)؟ سؤال يشي بإعجابٍ أكثر من تعجّب. فكلّ ما في "خلفية" مُثيرٌ للتفكير في صنعة السينما، المستفيدة دائماً من تطوّر التقنيات العلمية، كما تستفيد اليوم من تقنيات الحاسوب والرقميّ، ومن انفتاح صُنّاعها على تجريب أساليب سرد مدهشة في جرأتها وحصيلتها النهائية: أفلامٌ بسيطة الإنتاج، مستوفية شروط الصَنعة السينمائية المعقّدة، ومشغولة بجماليات احترافية، مرجعيّاتها حداثوية فكر سينمائي منفتح على التجريب.

هذا مُجرّب في وثائقيّه القصير "فناء خلفي" (2018)، الذي يستدعي ذكريات الحرب الأهلية السورية، باشتغالٍ على صورة فوتوغرافية قديمة لحقل صبّار، يُتاخم جدار مسكنه في ضواحي دمشق، تغيّرت ألوانه الخضراء بفعل تساقط القنابل عليه، واصطبغ لون السماء فوقه بسواد. من دون حوار، ومن دون أدوات تعبير سينمائية تقليدية، عملت الصَنعَة السينمائية الحداثوية عملها، فأحيت زمناً جميلاً مضى، طغى فيه لون الصبّار الأخضر على مساحات كبيرة من أرض بلد، لم يعد لصانع الفيلم مكان فيه اليوم. كما صار حقل الصبّار وذكرياته خلفية لصورة حزينة، مُعلّقة على جدار عارٍ، لمنزل لاجئ سوري غريب، يُقيم في الفناء الخلفي لحيّ ألماني.

بالأسلوب السينمائي نفسه، المعتمِد على استنطاق الصورة الفوتوغرافية "الجامدة"، وخلق أجواء سينمائية متحرّكة منها، قادرة على استعادة الماضي وفتح نافذة على الحاضر، يشتغل خالد عبد الواحد على صُور والده، التي أخذها في ألمانيا الشرقية، نهاية الخمسينيات الماضية، المشحونة أوروبياً بتوتّرات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. يُعيد الابن اللاجئ تركيبها، ويعود في كلّ مرة إلى والده، ليحكي له عنها، وعن المعاني المحيطة بها، ثم يتحقّق بعدها من دقّة زمان التقاطها، وعلاقتها بالمكان الذي التُقطت فيه.

الصوت الرابط بينهما يأتي عبر "واتساب"، مُشوّشاً ومُتقطّعاً غالباً، يتّخذ شكل مونولوغ غريب، وحيد الاتجاه، لا كمكالمة هاتفية عادية بين اثنين. الأسئلة الموجّهة إلى الأب تأتي من وحي صُوره الفوتوغرافية، يردّ عليها من سورية، بما تُعين به عليه ذاكرته. يخطئ فيها أحياناً، فيبحث الابن في تفاصيلها، ويُصحّحها.

 

 

صورة له التُقطت في بطرسبورغ، يظنّ أنّها كانت في برلين. حديث له عن حلاقة متواضعة، تعرّف عليها وشاهدها مرة تحضر عرض أوبرا، جلست إلى جانبه ولم يصدق ذلك. يُصحّح الابن التاريخ ومكان العرض، من دون إخبار والده عنها. كلاهما في "خلفية" مغيّبان، لا يظهران على الشاشة. هما خلفية الحدث، أما تفاصيله فتصل إلى المُشاهد بالصوت والصورة الفوتوغرافية، التي بترتيبها وتوليفها التقني الجديد يُعيد المخرج (هو نفسه المونتير وكاتب السيناريو والمصوّر) لها أزمانها الحقيقية، وصلتها بحياة رجل صَعَّبت عليه التحوّلات السياسية، بعد توحيد الألمانيتين، الوصول إلى ولده، والبلد الذي تخرّج منه مُهندساً كيمياوياً، مختصّاً بالطاقة النفطية. لكنّ تعقيدات سياسات الهجرة أفشلت كلّ محاولات لقائهما قبل فوات الأوان.

لا يفصح الوثائقي، صراحة، عن مخاوف صانعه من بلوغ لحظة غياب الأب من الوجود. كما لا يفصح عن التحوّلات الحاصلة في المشهد السياسي الكوني، ولا المحلي السوري. يُبطّنها بدهاء مخرج يعرف ماذا يريد أنْ يقول، وكيف يُوصل خلاصاتها إلى المتفرّج الصبور على تجربته السينمائية. لم تترك الثورات وراءها سوى مرارات فشلها. الاشتراكية، وهماً كانت. لم تعد مدينة لايبزغ كما عهدها سعد الله عبد الواحد، ولا جامعة "درسدن" ظلّت على ما كانت عليه يوم دخلها شاباً طموحاً، معه طلاب يساريون، جمعهم حلم العيش في سلامٍ، في عالمٍ خالٍ من الحروب والصراعات.

الحرب في سورية لا تزال مشتعلة، تُسمَع أصواتها في خلفية صوته وسعاله الحاد، وهو يُحادث (من طرف واحد) ولده. الأمل في انفتاح العالم على بعضه يتلاشى، ومعه تتلاشى فرصة لقاء خالد به، ربما إلى الأبد. صوت رنين الهاتف الإلكتروني، غير المستجاب له من الطرف الآخر، يشي باحتمال نهاية الرجل الذي كان يردّ عليه، عادة، رغم حشرجة الصوت وضعفه. الإحساس بالحزن سائد في "خلفية"، دفينٌ يتسرّب بين ثنايا مَشاهِد تبدو صماء، مصنوعة بتقنية مجرّدة، تحرّكها أدوات مختبر تصوير، لكنّها في الحقيقة، ومن دون أنْ يشعر المتفرّج بها، تتسرّب إلى داخله.

بذلك، يحقّق الوثائقي الحداثوي شرطاً درامياً لازماً للتفاعل، يدعو إلى التفكير في طريقة توصيله، وفي السينما التي تؤطّره، والتي يُقدّم السوري خالد عبد الواحد أحد أجمل الأمثلة على قوّة اشتغالها وسطوة جماليتها.

المساهمون