حيفا فرج سليمان أحلى من برلين

20 ديسمبر 2020
يتقاطع "أحلى من برلين" مع الإصدار السابق "البيت الثاني"
+ الخط -

حتى زياد الرحباني ذاته، في قرارة نفسه، ولربما في العلن، يجدر به أن يحسّ بالملل. وإن لم يخلُ الملل هنا من بعض الزهو -وله الحق في ذلك- لشدة ما أثّرت شخصيته وتجربته وحضوره الفني والإعلامي بشباب الثمانينيات والتسعينيات في مجمل المنطقة العربية، وفي بلاد الشام، خصوصا التقدميين منهم، الذين ينظرون إلى الأغنية والمعزوفة على أنها حالة ثقافية، وليس محض صنعة ترفيهية، أي في إطار ما اصطلحت عليه الأدبيات الاشتراكية؛ الفن الجاد، أو الهادف.

عازف البيانو والمؤلف الفلسطيني فرج سليمان (1984)، نموذجٌ لتلك "الرحبانية الجديدة" (والنسبة هنا إلى زياد الابن، وليس عاصي الأب، أو منصور العم)، بلحية داكنة وانحناءة ميلانكولية جازيّة (من جاز Jazz) خلف بيانو أسود مُجنّح، تعكس إلهاماً فنياً من زاوية، وهمّاً اجتماعياً سياسياً من أخرى، يصوغه له صديقه وكاتب كلمات أغانيه مجد كيّال، أبياتاً عصرية يمكن وصفها بـ "الشعرية الشوارعية"؛ حيث اللهجة عامية فلسطينية، والشكل دفق حركي يقترب من الهيب- هوب والراب، مضامينه نقدية تنجلي تارة، وتارة أخرى تستتر خلف سوريالية تستمد رمزيتها من تناقض مفردات الحياة اليومية.

غاية فرج، على الأغلب، ليس التقليد باستنساخ التجربة "الزياديّة"، وإنما البحث عن صوت خاص وصورة شخصية في بحر بات يموج بالمتأثرات والمتشابهات عربياً وعالمياً. بحثٌ يزداد صعوبة لوفرة الموارد وتشعّب الروافد في زمن الإنترنت والرقمنة Digitalisation، كما سبق للمؤلف الآيسلندي الفذ دانييل بيارناسون Daniel Bjarnason في هذا الصدد أن شكا ذات مرة أنه "ومن كثرة ما أُلف من مواد سمعية على مدار القرون الخمسة الماضية، أمسى من المحال عدم تكرار السؤال عن جدوى كتابة أي موسيقى جديدة".

في وصف خيبته إزاء أول ألبوم أصدره سنة 2013، لبيانو الجاز المُنفرد بعنوان "Log in" (تسجيل دخول)، قال فرج سليمان بحساسية وشفافية لافتتين: "كان إصداراً سيئاً للغاية. لم يبادر إلينا أحد بكلمة ثناء أو إطراءٍ واحدة. ونحن، الذين ساهمنا في إنتاج العمل، بتنا مدركين حقيقة أننا لم نكن حقاً جيدين، وأن الألبوم كان بمثابة فشلٍ على مختلف الصعد".

بعد "لوغ إن"، وكأي فنان جاد يبحث عن صوت يكون له وسيلة فردية للتعبير ومصدراً حصرياً للعيش، عانى فرج الاكتئاب مدّة نصف عام. لعله لم يعِ حينها أن ذاك الألبوم هو محطةٌ هامةٌ في بحثه عن ذاته الفنية؛ فعبره وبأسلوب جاز الفيوجن Fusion (أي المزج) الحداثي، وبالاقتراب من أجواء عازف بيانو الجاز الأميركي بيل إيفانز (1929-1980) خصوصاً ألبومه الشهير "Alone" (وحيداً) سنة 1968، إنما كان يصقل مهاراته الآلية أولاً، والتي ستُميّز جميع القادم من أعماله.

ثانياً، شكّل "لوغ إن" بدايةً في سبر سبل تلاقح التراث بالحداثة الغربية وذلك في رحم الفيوجن - جاز. هنا، تتناهى إلى أذن السامع حلولٌ فنية تقنية وفّرها لفرج رواد سابقون، كعازف البيانو الأذربيجاني ڤاگيڤ مصطفى زاده Vagif Mustafazadeh (1940-1979)، والد عازفة بيانو الجاز والمغنية عزيزة مصطفى زاده، وذلك لجهة استحضار البُعيدات الصوتية على البيانو الكلاسيكي، المُعدل بواسطة خُدع سمعية على شكل زخارف لحنية، تعتمد فواصل نغمية متجاورة متتابعة، متلاصقة ومتباعدة، تنفذ بسرعة ومهارة عالية، فتخالها الأذن لوهلة بُعيدات شرقية صافية.

ثالثاً، عدم استساغة الناس "لوغ إن" شكّل بدايةً أخرى موازية في سبرِ سبل تلاقح النخبوي بالشعبوي، هذه المرة في أجواء مُختبر موسيقى العبور Cross Over بين الأساليب والأجناس الفنية. هنا تبرز تجربة زياد الرحباني كمسبار؛ حيث يُعيد فرج، ومن قبله زياد، رسم الحدود بين النخبوي والشعبوي؛ فليس النخبوي هو فقط من يستمع إلى بيانو يعزف وحيداً أشكالاً إيقاعية معقدة وتآلفات نغمية أجنبية. من جهة أخرى، ليس الشعبوي هو فقط من يسمع الأغاني المحض تجارية، أو "الهشّك بشّك". 

هناك طريق ثالثة، إذن، تبدو في التوجه إلى عموم شباب الطبقة الوسطى المنتشر والمنتثر حول العالم، إثر تراكم عوامل تاريخية جيوسياسية وحضارية، آخرها كان إجهاض حلم الربيع العربي، ووأد مشروع عادل للقضية الفلسطينية. شبابٌ مهاجرٌ في الداخل وفي الخارج، مُنفتح ومتعلم ومثقف، يُريد شكلا غربياً عصرياً، بقدر ما يُريد لحناً شرقياً عربياً، يُريد لهجة محكية وأحياناً سوقية، بقدر ما يُريد أن يكون للأغنية معنى وأن تحمل على متنها قضية، من غير تدوير المكرور البائد من الخطابات والشعارات والعقائد؛ شبابٌ عربي يريد الغناء والرقص، بقدر ما يريد الفن الجاد والهادف والمقاوم، منزوعَ الأيديولوجيا، أو على الأقل؛ ذاك الرث منها.

تلاقح العصري بالتراثي والنخبوي بالشعبوي، تمخّض عنهما ألبوما فرج الأخيران "أحلى من برلين" ومن قبله "البيت الثاني" The Second Verse. كلاهما أقرب إلى أن يكونا توأمين، حيث يُشبهان بعضهما إلى حد قد يستدعي معه شبهة التكرار، لعلها إشارة على الاستقرار، وإن إلى حينٍ فنية عادة ما تكون وجيزة، على طريق واضحة الملامح. والعثور على صوت لطالما بحث فرج عنه من بين عديد المناهل والمشارب، كالأغنية الفلسطينية في "إطحن بقلبك بن" والفرنسية الشاعرية بـ "إسا جاي" و"الشاعرية الرقمية" لدى الفنان الفرنسي يوان ليموان والملقب ب Woodkid في "مرثية لشهيد وحيد"، وحتى في باخ وشوبان ومايلز ديفيس.

صوتٌ، يوصله إلى الناس ويصل بالناس إليه. يجعل من حنجرته الخام حاملاً لأشعار صديقه مجد كيّال، يرافقها بيانو الجاز الذي يُجيد عزفه إلى درجة تمكّنه من الأداء والغناء بحرية، إذ أنه ليس بمُغنٍ ولا هو ادعى ذلك يوماً. نواةٌ موسيقية تصلح علامة تسويقية، قابلة لسائر الإضافات والإسهامات من أصوات بشرية وأخرى إلكترونية وآلات تراثية وأوركسترالية. 

تتوجه إلى المستمع المحلي والعالمي بحديث حميميٍ خصوصي حيناً، ومعيشيٍ عمومي حيناً، وسياسيٍ حيناً في إطار اليسار الكوني الصاعد، الذي لا يرى من حدودٍ تفصل المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي عن النضال في سبيل "اجتثاث الكولونيالية" Decolonisation، ومكافحة العنصرية ونصرة الحقوق الجندرية والمثلية. صوتٌ لعله أحلى من الصمت، يسعى فرج سليمان إلى أن يُسمع صداه في فلسطين كما برلين.

المساهمون