حكواتي: في الشارع نفسه

30 اغسطس 2014
ساحة السجن لفان غوغ 1890 (Getty)
+ الخط -
جميعهم يمرّون في الشارع نفسه. القرويّون المستعجلون، والشباب الجادّون منهمكون بالتدخين، خصوصاً حينما يكثرون من شرب القهوة صباحَ مساء، أو عند خوضهم غمار أحاديث ساخنة، أو عندما يتناقلون أخبار الحرب القريبة في رأس العين، أو تلك التي اندلعت أخيراً جنوبي الحسكة، حيث تقع "الشدّادة"، وهي مركز شركات النفط التي نُهبَت فجأة.

كلهم هنا في هذا الشارع الجميل. إمّا أن ينتظروا الصيدلية حتى تفتح أبوابها، أو يطرقوا باب مصلّح المسجّلات القديمة، ذلك الرجل النحيل ذو الصوت الخفيض، والذي يُرى غالباً خارج محله، يعاون أحدا ما في الشارع الآخر، أو يخوض نقاشاً مع صديقه بائع بطاقات الهواتف التركية وسائق شاحنة توزيع الخبز الآلي.

كلهم يأتون إلى الشارع نفسه، ليشربوا القهوة في مكتب الحزب الجديد، أو يشتروا دفتراً من المكتبة التي تبيع أيضاً مفرقعات من الصين. الدخول إلى مكتب الحزب وشرب القهوة يتحول إلى واجب، يتحول إلى أمر ملزم.

لقد أحسن الحزب السريّ العمل هذه المرة، موّه نشاطه من خلال تسمية مكتبه بـ"المكتب العقاري"، مع العلم أن كلّ من يسكن البلدة، حتى أولئك القاطنين في القرى الكثيرة المحيطة بها، كانوا يعرفون الرفاق الحزبيين واحداً واحداً، بل يعرفون كذلك من أي عائلة ينحدرون، وما هي أسماء آبائهم وأمّهاتهم.

إنه شارع قصير يكاد جانباه أن يتلاصقا. في الليل يهدأ، حيث تجد بائع الكباب الهارب من حلب، بعدما بقي هناك عشرين سنة، واضطر إلى العودة إلى بلدته هرباً من البراميل السماوية أو مخافة الجوع الأسديّ الشرس.

القادمون من القرى القريبة، يأتون إلى الشارع أيضاً، كل صباح يحملهم باص قديم ثم يعيدهم بعد الظهيرة إلى بيوتهم الطينية التي تحيط بها سهول مترامية. قرويون حريصون، ليس لديهم وقت حتى يضيّعوه، يأتون بالجبنة في سطل بلاستيكي أو داخل كيس نايلون محكم الإغلاق اتقاءً من هجمات الذباب، أو ربما يجبرهم خروف مريض على الإسراع في القدوم إلى البلدة، كي يشتريه أحد القصابين البارعين في انتقاء ذبيحة جيدة بسعر رخيص.

هنا أيضاً تقع عيادة الطبيب البخيل فوق الصيدلية. لقد طرد معاونه بعدما رفض الأخير سلوك معلّمه الذي كان يرفض استقبال المرضى في الليل، ويطلب فاتورة باهظة ممن هم بالأصل فقراء، وهؤلاء هم معظم سكان البلدة.

قال الممرض المعاون، مدافعاً عن نفسه ومهاجماً الطبيب المتسلط، إن الطبيب كان يتعاطى الرّبا، وإن المهنة المحترمة لم تعد تعني له شيئاً على الإطلاق، بعدما تحول إلى تاجر للعملة والذهب، ولربما أيضاً يشارك ببعضٍ من ماله مع تاجر مختص في تسمين العجول، وبيعها بأسعار عالية بعد تهريبها إلى العراق، ذلك أن اللحم السوري شهي ومرغوب هناك، ويقال إن كثيرين يفطرون على اللحم قبل شرب القهوة! المكتبة التي تفتح أبوابها باكراً، تبيع الطوابع، علب الدخان، ونسخاً من بيانات الأحزاب الجديدة، هي أيضاً في نفس الشارع.

وفي الشارع كذلك منزل التاجر صديق المحافظ وقائد الشرطة. "يا إلهي!" يقول لي صديقي المتبطل، حينما نذرع أنا وإياه الشوارع دونما غاية أو سبب: "كلهم هنا، في الشارع نفسه".

يكفي أن تنظر فقط أو تصغي قليلاً حتى تعلم بكل شيء، ومع ذلك فإن للحيطان آذاناً، وللهواء آذانٌ أخرى أوسع وأكثر قدرة على التجسس. هو أيضاً هنا، في آخر الشارع، قبل الانعطاف إلى شارع البلدية الأعرض، أقصد الحلاق الذي طالما أشيع أنه مخبر للأمن السوري. يفرغ الشارع، ثم يعود ويمتلئ من جديد. لكن آخر أخباره تقول إن الحزب "العقاري" قد أغلق المكتب، وأخذ حجرة قرب عيادة الطبيب الذي طرد ممرضه. في الحجرة الجديدة تعقد اجتماعات جديدة، وهي الآن علنية ومكشوفة، فقد احتفل أعضاء الحزب السريّ بافتتاح مركز للاعتناء بالصحة النفسية!
المساهمون