حكواتي :عن عمر ناهز المائة

15 سبتمبر 2014
"عند المائة سيكون كلّ شيء طبيعياً بالنسبة إليّ"(ديفيد فروند/Getty)
+ الخط -
سأفترض أنّ اللحظة التي أستقبل فيها الموت بشكل طبيعي، حين أتجاوز عتبة التسعين، أي حين أقترب من تحقّق الدعاء القديم الذي اشتهر باللهجة المصرية منذ مسلسلات الأبيض والأسود "عقبال 100 سنة يا ربّ يا ربّ يا ربّ".

عند المائة سيكون كلّ شيء طبيعياً بالنسبة إليّ، أي مفلساً، فيستوي عندي الإفلاس والفلوس ويكون كافياً لي وزيادة، متري المربّع. سأكون راضياً عن الناس أجمعين، وأدّعي أنّني لا أسمع شيئاً، بيد أنّني أسمعهم، أولئك الفضوليين الذين يسألون ما طبيعة غذائه؟ ولماذا ما زال ذهنه صافياً ويتذكّر؟ طبيعة الغذاء ليست محسومة أبداً، فأيّ شخص يصل المائة سيقولون إنّ ذلك لأنّه قضى حياته يأكل الثوم واللبن، أو يأكل السمك، أو لحوم الإبل، أو المعلّبات المنتهية صلاحيتها.

أما الذهن الصافي فلا يتعلّق باللحظة الراهنة. فحين يعدّد الناس ذرّيتي، لا أحفظ ولا أفكر أنّ أحفظ اسماً من أسماء أحفادي. فأنا متفرّغ فقط لتذكّر الأستاذ عبد الرزاق دعسان ودرس الصحن المغطّى، ويوم حلقوا شعري على الصفر في اليوم الأول للمدرسة، توفيراً للصابون وخشية من "الأفكار الهدّامة" التي تعشّش في الشعر.

ربما أحكي لرهط يحيط بي عن سعاد التي أوقفت بالقهوة نزف جرح في رأسي، وحين هدّأتني وعصبت رأسي وضمّتني كان شعري الأشقر، من الجهة المعاكسة للجرح والقهوة، يلامس صدرها وقميصها الجورسيه الأخضر. كنتُ أريد أن أبقى مجروحاً ومضموماً لزمن أطول.

سأحكي عن "صاروخ"، الفدائي الذي رآني ألعب في الرمل وأعثر على رصاصة كلاشنكوف. أخذها منّي وقال: "أنظر كيف أُصيب برصاصتك تلك العمارة البرتقالية. وأطلقها وأنا أُقفل أذنيّ، وقلت لأبي، فقال لي وهو يضحك بسنّه الذهبية: "العمارة البرتقالية بعيدة وصاروخ كَذب عليكَ".

وسأحكي عن أبو محمود المصري الصعيدي الذي لديه عين كريمة، والعين التي تعمل شبه معطوبة، إنّما تحسَّنَ حالها بسبب قطرة أجنبية أخذها مجَاناً من سريّة سعودية، كانت ترابط في العبدلي وسط عمّان.

فتبرّع بما تبقى من القطرة لأبي كي يعالجني من الرمد الربيعي: "هذه قطرة سحرية إذا عالجت عيني التالفة فبالتأكيد ستعالج رمد ابنك محمد". وبالفعل بطحوني على الأرض وقطّروا في عينيّ الاثنتين، فأُصبت فوراً بالعمى لنصف يوم، قبل أن يتدارك الأمر طبيب العيون حنّا حبيب ويعيد إليّ بصري ويشتم أبي بحضوري شخصياً، شتيمة من العيار الثقيل.

ثم إنني بعد المائة لن أحفل حتّى بأسماء الكهول (من 35 إلى 50) التابعين للعشيرة. كلّ كهل عندي اسمه "زلمة"، لا لشيء سوى أنّ الزلمة كان اسم جندي المشاة في الجيش العثماني، الذي ورثته عن أبي، الذي ورثه عن أبيه. لن أموت بعد المائة بسبب مرض عضال، هذا أمر مفروغ منه، ولا بسبب صراع طويل مع المرض.

المصارعة تحتاج إلى عضلات تناضل ضدّ الموت، لكنّ الموت يباغتها بـ"سوفليكس رائع" كما يقول معلّق المصارعة الحرة. الموت غير الطبيعي هو ما يحدث فقط في الطريق الاعتباطي المفاجئ نحو المائة. مفاجئ لأنّه يقع حين كنّا على وشك أن نقول شيئاً ما.

لكنّ النصّ لا ينقطع، فكلّ من يقع عليهم وصف محمود درويش "لأنّ موتاً طائشاً ضَل الطريق إليك من فرط الزحام.. وأجّلك"، هؤلاء المؤجَّلون وظيفتهم أن يكملوا النصّ المقطوع. إنّهم عائلة الميت - سواء نووية أو ممتدّة أو أمميّة - التي هي من يعذّبها الغياب الفجائي فتقول ما لم يقله الميّت: "يا وحشتا".

ثم نكتشف أنّ تكملة النصّ لفائدة الباقين على قيد الحياة. من بين ذلك ذِكْر محاسن الموتى، فهو يلزمنا نحن، نحن من نحتاج إلى الأسطورة، والأسطورة - كما قال أحدهم - ليست ما فعل الرجل بل ما تخيّلنا أنّه فعله. كما لو أنّ ذِكْر محاسن الموتى selfie (سيلفي) من نوع خاصّ يظهر في فيسبوكنا وإنستاغرامنا نحن، لأن فيسبوكّه وإنستاغرامه معطّلان إلى أجل غير مسمّى.

من المهم القول إنّني إذا بلغت المائة، محفوفاً بـ"يا ربّ يا ربّ يا ربّ"، لن أنزعج حين يناغشني أحدهم: ماذا تفعل حتّى الآن؟ أما زلت على قيد الحياة؟ فأردّ: أنت تحديدًا يا كلب، لن أدعك تحضر جنازتي، وأضحك، حتّى تُرى لهاتي في الفم المحطّم. وربما لا يناغشونني، وربما هم لا أبا لهم يسأمون. وربما أقول ما قاله معمّر: "عشت مائة عام.. المعذرة".
المساهمون