"حكاية سليمان" المهاجر: إيقاع محموم يُحيط بالجوهريّ

13 سبتمبر 2024
سليمان يروي حكاية هجرته إلى باريس: يوميات مُتعِبَة (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **قصة سليمان في باريس**: فيلم "حكاية سليمان" (2024) للمخرج بوريس لوجكين، يروي معاناة مهاجر أفريقي في باريس، من العمل غير القانوني إلى استغلال الآخرين له.

- **إيقاع الحياة المحموم**: يعرض الفيلم تفاصيل حياة سليمان اليومية، من تسليم الوجبات إلى محاولاته للحصول على اللجوء، ويكافح في شوارع باريس مع تحديات الأوراق الرسمية وأسرته في غينيا.

- **التحديات الأخلاقية والواقعية**: يواجه سليمان معضلات أخلاقية مثل الكذب للحصول على اللجوء، ويصور الفيلم باريس بواقعية، مع تباين بين المناطق الفقيرة والراقية، ويعبر عن تعاطف مع سليمان.

 

يجلس مُنتظراً دوره، مُحاولاً إخفاء بقعة دمٍّ بقيت على طرف قميصه الأبيض. في الممرّ، وهو يتبع موظفة مكتب الهجرة واللاجئين، يسرد شريط الأحداث أياماً قليلة قبل هذا الموعد المصيري.

لوهلةٍ أولى، يبدو "حكاية سليمان" (2024)، للفرنسي بوريس لوجكين، يوميات مهاجر أفريقي في باريس. قصة أخرى من القصص المتزايدة للمهاجرين. لكنّ هذه البرودة في تلقٍّ أولي تتحوّل سريعاً، مع تحوّل السرد من يوميات معاناة شخصٍ إلى قصة درامية مشوّقة، أقرب إلى الإثارة، وغنيّة بتفاصيل عن شخصية وجماعة، ومدينة وناسها، يحضر فيها الواقع بحدّه الأقصى، بما يعنيه من صُور مألوفة في العاصمة الفرنسية. أبطالها سُعاةٌ باتوا جزءاً من الحياة الباريسية. تجمّعات شباب أفارقة على درّاجاتهم المحمّلة بصناديق زرقاء أو صفراء، عازلة ومهيّأة لوجبات ساخنة، في طريقها إلى زبون منتظر.

في 90 دقيقة، يسير الفيلم على إيقاع محموم، ويحيط بالجوهريّ في واقع هؤلاء: كواليس عملهم وتعقيداته، علاقات بعضهم بالبعض الآخر ومع الأهل، نظرتهم إلى هذا البلد الجديد والغريب، أساليبهم في الحصول على اللجوء. وهذا بالتركيز على سليمان (آبو سنغار)، الذي ترك غينيا، حيث حياة فقيرة وأمّ مريضة وحبيبة شابة، للبحث عن عيش أفضل. في فرنسا، لا يحقّ له العمل قبل البتّ بأمره. لكنْ، بالتحايل، يلجأ إلى من يعطيه اسمه على تطبيق معدّ للطلبيات، مع استغلاله والنصب عليه.

بين تفقّد هاتفه والعمل على درّاجته، يتجوّل سليمان في شوارع باريس لتسليم الوجبات. يحاول أنْ يكون مُهذّباً يحترم أصول التعامل، لكنّه يخرج عن طوره أحياناً رغماً عنه. يُوتّره سباق مع الزمن، وحاجة إلى الراحة، ولا سيما قبل يومين من موعد مقابلةٍ، ستُحدّد مصيره بالبقاء في فرنسا، أو بعدمه.

يومه يبدو كأنْ لا نهاية له. يسير على إيقاع مُنهِك. يقود درّاجته بحيوية، نهاراً وليلاً، في إضاءة قوية بلونيها الأصفر الكئيب ليلاً، والأزرق المُشعّ نهاراً. سليمان شخص مكافح، لا دقيقة له لالتقاط أنفاسه. يركض. يقود بسرعة ليحصل على طلبيات أكثر. يتعرّض لمخاطر. يحاول حَلّ مشاكله مع الأوراق، ومع أسرته في غينيا، ومع أصحاب المطاعم والزبائن. لكنّ المشاكل تتراكم عليه. يسرقه مهاجرون آخرون. يعدّ نقوده القليلة. يضطر أحياناً إلى النوم في الخارج، بعد أنْ فاتته حافلة خاصة لنقل اللاجئين إلى مأوى ليليّ لهم. حافلة تحتشد فيها أجساد منهَكة لعمّال مثله، أمامهم ساعات قليلة قبل أنْ يبدأوا نهاراً محموماً آخر في مجتمع استهلاكي لا يرحم إنساناً في وضعهم، مُجرّداً من الأوراق والشهادات والانتماء.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الكذب أفضل وسيلة للحصول على اللجوء السياسي. هكذا أقنعوه. أفريقي آخر يعطي دروساً مدفوعة لاختراع سِيَر حياة سادها اضطهاد سياسي، تُردّد في مقابلات مكتب اللجوء. يُحذّر الأفريقيّ تلاميذه البؤساء من أنّ الموظفين يعلمون كلّ شيء، حتى الصُّور والكتابات على جدران السجون. إنّهم (الموظفين) باتوا يحفظون القصص بتفاصيلها، تلك التي تتردّد مع تنويعات طفيفة.

يضع "حكاية سليمان" شخصيته الرئيسية أمام معضلات أخلاقية عدّة: هل عليه التخلّي عن حبيبته لمصلحتها؟ هل عليه العودة إلى أمّه التي تفتقده؟ هل يكذب أمام اللجنة كما نُصح؟ كيف سيتعامل مع مستغلّيه؟ لا يترك الفيلم فرصة لملل أو ضجر من قصص مهاجرين تتكرّر. يهتمّ أيضاً، بلقطات سريعة وزوايا تصويرية جديدة، بأشياء أخرى. يُصوّر باريس بواقعها. وفي مدينة كهذه، تعجّ بالأصوات، لا يحاج إلى استخدام مؤثّرات أو موسيقى. تكفي أصوات المدينة: أبواق سيارات محتجّة بين حين وآخر. سيارات إسعاف وشرطة بزماميرها. حافلات. عربات أنفاق، تفتح أبوابها وتغلقها بوتيرةٍ لها نغمتها. محرّكات الدرّاجات النارية. أصوات التقطها مهندس الصوت مارك أوليفييه برولي بحساسية ودقّة، لتعبّر عن باريس، وعن أيّ مدينة كبيرة في الحياة المعاصرة.

تظهر باريس عبر نظرات غرباء لا يعرفون قواعدها. كلّ شرطيّ تهديدٌ، وكلّ زبون قد يكون معادياً، وكلّ تنقّل شاقّ وطويل. تُصوَّر المدينة بضواحيها الضخمة، ذات الأبنية العالية المتراصة التي يسكنها الفقراء، ومناطقها الراقية بأبنيتها الحجرية الأنيقة، وبمطاعمها ومكاتبها وعربات القطار السريع ومراكز الإيواء. هذا كلّه يظهر في لقطات عابرة، تبدي الحياة اليومية في المدينة.

يهتمّ "حكاية سليمان"، ولو على عجلة، بإظهار الباريسيين العاملين في المكاتب وهم يتلقّون طلبيّات تُلتهم بسرعة في مكان العمل، أو العابرين الذين يصدمون المارة بسياراتهم (كما حصل لسليمان) ودرّاجاتهم. لا ينسى، مُبدياً فظاظة بعد إشارته إلى رفيق آخر وكياسته. ينغمر في عالم هؤلاء السعاة، ويتناول بعمق شخصية سليمان، بتردّده في الكلام، وبنشاطه وإصراره وكفاحه، ومحاولاته لأنْ يكون نزيهاً وهادئاً في بلد لا يعرفه، ومدينة لا يتاح للمرء التقاط أنفاسه فيها، فيكون عفوياً، كأنّه يردّد قصته الأصلية، هو الذي يُرفض طلبه باللجوء، ويعمل ميكانيكياً في المدينة الفرنسية "أميان".

هناك تعاطف مع سليمان، ومع المخرج بوريس لوجكين، خصوصاً في المشهد الأخير، وهو في مكتب اللجوء، يستمع إلى أسئلة الموظّفة المحنّكة. لكنّ تعاطف لوجكين لم يمنعه من تقديم وجوه عدّة لهؤلاء المهاجرين، فهم ليسوا ملائكة، رغم محاولات التبرير.

المساهمون