الغناء جماعةً سبيلنا إلى التعلم كيف نعيش معاً. عبارة لن تخطر في الأغلب على بال أحد في المنطقة العربية. اللهم سوى ندرة قليلة، ممن يجمعون المعرفة الموسيقية العميقة بالرؤية الكونية البعيدة. الموسيقي والمربّي السوري حسام الدين بريمو (1961 - 2022)، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، كان واحداً من بين هؤلاء. تبنى تلك العبارة، قناعةً راسخة، على طول مشواره الفني الذي امتد أربعين عاماً. جعلها له غايةً، عساها أن تُضفي على الحياة مسحةً من الأبدية.
في الغناء الجماعي، يتعلم الكلّ سماع الواحد، والواحد سماع الكل. لا يعلو صوتٌ فوق صوت، إلا في ما تقتضيه المهمة. ولا يصح صوت إلا بصحة بقية الأصوات. تذوب الفوارق، تزول المراتب، ببقاء الاختلاف. هكذا، ينشأ لدى المجموعة فهمٌ مشترك لكيفية ممارسة العيش معاً، وإدراكٌ متبادل لمُشكلات العمل ضمن فريق. يزداد وعيها الجمعي بقيمة وأهمية التعاون والتنسيق، وقبول التباين في الأهواء والأفكار، بما يتجاوز الموسيقى والغناء، إلى بناء مجتمع سليم، كجوقة، منسجم ومتناغم. لأجل تلك الغاية، وهب حسام الدين بريمو روحه وجسده ووقته.
اجتهد في تعلّم الغناء على أصوله المحلية والعالمية. في الكنيسة الشامية، إحدى أولى بيوت الجوق في الشرق، تشرّب التراث الغنائي الشرقي السرياني والبيزنطي المتجذّر في بلاد الشام لأعمقَ من ألفيّ عام. تعلّم قواعد الغناء الكنسي، وآدابه، والمناهج التي لُقِّنت بواسطتها التراتيل أحادية الصوت، ولُحِّنت اعتماداً لنواظم المقامات الشرقية وانتقالاتها، على نمطٍ خطيّ مزوَّق، مُرسل وممتد. في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، المؤسسة التعليمية الأرقى سورياً في إعداد الكوادر الموسيقية المدربة، درس الغناء الكلاسيكي الغربي. خَبِر كيف تُبنى الجوقة الغنائية متعددة الأصوات، أي، عندما لا يقوم جميع الأعضاء بالضرورة، بغناء اللحن نفسه، على النغمة نفسها.
بحضور وإشراف خبرات أجنبية، راقب كيف تُؤهّل الجوقات الغربية وتُدرّب، وكيف توضع لها الخطط والبرامج، وتؤلف وتوزع لها الأغاني والمقطوعات. في وزارة التربية، ومن خلال عمله في مرافقها الفنيّة، أدرك قيمة زرع ثقافة الغناء الجماعي باكراً في النشئ الجديد، وذلك قبل الهرع إلى العمل على قمة الهرم، بتأسيس وتأهيل فرق الكبار والمحترفين، للعمل في المسارح وحضور المهرجانات.
لأجل هذا، نمّا لديه عاطفة أبوية، جمعت بين الحكمة والصبر، الرأفة والرعاية، وإن لزم الأمر، الصلابة والصرامة. انصهرت به جميعاً، كجوقة داخلية، ومن خلف ابتسامته العريضة الدائمة، كوّنت شخصيته المركبة والفريدة. صارت علامة فنية اجتماعية مميّزة بين أصدقائه وزملائه وأقرانه، والأهم منهم، بين تلاميذته وطلابه.
أما الإسهام الأعمق والأبقى له، لعله تمثّل برؤيته للجوق الجماعي، كمشروع رياديّ، مُستقل، يقترب لجهة الهيئة والوظيفة، من شكل مؤسسة مجتمع مدني. تعمقت تلك الرؤية لديه، أوائل الألفية الثالثة، في ظلّ انفتاح جزئي ونسبي أبدته السلطات السورية، إزاء مظاهر الحراك الاجتماعي. بارقة أمل، وبرهة انتعاش، تلقّفها الموسيقي والمربي الدؤوب والطموح، من أجل إطلاق مشروعه، لتأسيس كورال مجتمعي، لا صفة رسمية له، أو هوية دينية تحدّ من منتسبيه، بل إنه مفتوحٌ مُتاحٌ أمام جميع السوريين، بصفتهم مواطنين، لا رعايا أو موظّفين. هكذا، كانت البداية بكورال "قوس قزح". ضم أربعين مغنية ومغنياً، منهم المحترف ومنهم الهاوي. حظيت الجوقة بإقبال من جميع الشرائح الاجتماعية، وتشجيعٍ من قبل الجهات الخاصة والرسمية.
بالنسبة لحسام الدين بريمو، لم يكن "قوس قزح" سوى الطيف الذي سيفرز ألواناً عدة، والجذع الذي تتفرع منه أغصانٌ جديدة. وصلاً لماضيه التربوي بحاضره الريادي، أطلق كورال "ألوان" للصغار ما بين سن السابعة والثالثة عشرة، ضم سبعين طفلة وطفلاً. ثم جوقة "ورد" لليافعين، وجوقة "سنا" للراشدين، وليس انتهاءً بجوقة تربوية للأطفال دون سنة الست سنوات، يتفاعلون من خلالها معاً بواسطة كل من الحركة والصوت، ثم فرقة موسيقى آلية، تضطلع بمهام مصاحبة الجوقات موسيقياً، تحت اسم "ندى".
لعل "قوس قزح" (القابضة) إن صح التعبير، أوّل مسعى محلي إلى إنشاء مؤسسة فنية موسيقية خارج المؤسسة الرسمية التي تمثّلت في كل من وزارة الثقافة والتربية والإعلام. كان لتلك المؤسسة المستقلة هدفٌ قريب مزدوج، من جهة، تقريب الموسيقى من العامة، ليس من نافذة الاستماع والتذوّق فقط، وإنما أيضاً من باب المساهمة في الإنتاج، عن طريق المشاركة مع أقرانهم المحترفين. ومن جهة أخرى، السعي إلى خلق المزيد من الفرص، وإن ضمن نطق محدودة وإمكانات متواضعة، يوفّر مقداراً ربحياً ضئيلاً، أمام أفواج المحترفين، من خريجي المعهد العالي للموسيقى وكلية التربية الموسيقية، بدلاً من الاكتفاء بالاتّكاء على الدولة، في استيعابها للكفاءات الموسيقية، ضمن الوظائف الحكومية. أما الهدف البعيد، فهو الاستثمار في تعزيز ثقافة الغناء الجماعي ضمن المجتمع السوري، رسماً لصورة عابرة للدين والفئة العمرية والطبقة الاجتماعية. بذلك تُصبح الجوقة أداة بناء اجتماعي، أو بتعبير اللغة الطوباوية التي درجت على ألسنة المثقفين السوريين مطلع الألفية؛ أداة "مواطنة".
من هنا، كانت الموسيقى بالنسبة إليه أقرب لأن تكون وسيلة، منها لأن تكون غاية. ولأجل امتلاك الوسيلة، بغية الوصول إلى الغاية، توفرت لدى حسام الدين بريمو السمات التي ميّزت الشخصية الريادية. حافظ على مشروعه حياً، رغم الهول الذي ألم بالبلد، بذكاء وبصيرة، بلباقة وليونة، بعنجهية وعناد، والقبول بالتفاوض مع الواقع الراهن، في ظلّ أوضاع سورية وعربية، لكثرة ما كانت مُحبطة ومُثبّطة. لذا، من عرف حسام الدين بريمو، صدمه رحيله. من عرف ابتسامته العريضة، وروحه المرحة، وفيض الطاقة الإيجابية التي عمّت في حضوره، خاله أنه سيعيش أبداً.