جيمس غراي (2/ 3): "ينبغي السموّ بأنفسنا لا التباهي كم نحن عظماء"

04 يناير 2023
جيمس غراي: "أسرد قصّة من تلك التي أحكيها لأطفالي" (روكو سْباتزياني/Getty)
+ الخط -

 

(*) لماذا أردتَ التحدّث عن طفولتك اليوم، في هذا الوقت بالذات؟

عندما تصنع فيلماً، تتمنّى لو أنّك تكتبه، ثم تخرجه غداً، ثم يُعرض في الصالات في اليوم التالي. كتبتُ "يوم هرمغدون" منذ 4 أعوام تقريباً. أعتقد أنّ فكرةَ الفيلم، التي تدور في ذهني، إعادةُ اكتشاف حبّي للسينما، من دون الماكينة التقنية التي عذّبتني في "إلى النّجوم" و "مدينة زي المفقودة". أنا فخورٌ بهذا الأخير كفيلم، لكنّي كدت ألقى حتفي في صنعه. التواجد في الأدغال صعبٌ للغاية. طبعاً أفلامٌ عدّة صُوّرت هناك عانت المصير نفسه. لكنْ، كان لديّ ما يكفي من الغطرسة والكِبَر، لأظنّ أنّي سأكون أكثر ترتيباً وانضباطاً ممّن سبقوني، وأنّ ذلك سيضعني في مأمن من الكَيامِن والملاريا في الأمازون، والأشياء الأخرى. خرجتُ من ذلك كلّه مُتعباً بدنياً، فأردتُ أنْ أروي على الشاشة قصّة من تلك التي اعتدت أنْ أحكيها لأطفالي.

 

(*) ماذا عن اختيارك أنتوني هوبكنز لدور الجدّ؟ ماذا رأيت فيه؟

ما رأيتُه فيه أنّه أعظم ممثّل في التاريخ (ابتسامة)، أو على الأقل من بين الـ5 الأعظم. لا أعرف. ثمّ إنّه يشبه جدّي كثيراً. كان جدّي رجلاً حضرياً مُثيراً للاهتمام، حنوناً جداً ومُحباً. لكنه كان أيضاً غير عاطفي، أحياناً. كانت علاقتي به جميلة ومعقّدة في آنٍ واحد. في الفيلم، أردتُه أنْ يكون الشخص الذي يجعل الطفل يحسّ بأنّه مرغوب ومحبوب، وأيضاً أنْ يخلق لديه تنافراً معرفياً، حين يقول له: "كُنْ رجلاً طيباً"، بعد أنْ يخبره في المشهد السابق: "أنا الذي قلتُ لوالديك أنْ يفعلا ذلك" (أي أنْ ينقلا الطفل إلى مدرسة خصوصية، ضد إرادته ـ المحرّر)، أو كلاماً كهذا: "اندمج. اندمج. اسمك العائلي غراف. يُمكنك أنْ تندمج في اللعبة. كُنْ رجلاً طيباً، ولكنْ اندمج".

أقصد أنّنا بصدد خطابين يتناقض أحدهما مع الآخر. لذلك، أجد الأمر غير عاطفي. توني (أنتوني هوبكنز ـ المحرّر) يتمتّع بهذه الخصلة. لا أعرف إنْ كان يُمكنني العثور على صورة لجدّي، لأريها لكم (يبحث في هاتفه ويجد الصورة). إنّها من عام 1971. كنتُ في الثانية من عمري. لذلك، يبدو الجدّ أكبر سنّاً في الفيلم. التطابق بينهما يمسّ الجوهر. شيءٌ يصعب وصفه بالكلمات.

 

(*) ما أكثر ما كان يثير إعجابك في جدّك؟

كان قادراً على التعبير، لأخي ولي أنا، أنّه مرغوبٌ بنا، وأنّنا محبوبان. ليس سهلاً القيام بذلك، كما تعلم. متأكدٌ أنّ والديّ كانا يحبّانني، أنا وأخي. لكنّهما كانا يكافحان طوال النهار لوضع طعامٍ على المائدة، ولدفع الفواتير. أنْ يُخبرانا بأنّنا محبوبان، يأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة بالنسبة إليهما. أفهم ذلك جيداً كوالدٍ اليوم. لديّ مشاغل كثيرة. متأكدٌ أنّي أرتكب أخطاء كثيرة مع أبنائي، لكنّهم يعلمون أنّهم محبوبون. جدّي منحنا ذلك. أعتقد أنّ هذا أنقذنا.

 

(*) ناقشت امتياز البيض والشرخ الاجتماعي في الفيلم. تعلم أنّ القيام بذلك يُسهل تعريض المرء للوقوع في فخّ الأخلاقوية. كيف حرصت على توازن قول الأشياء، من دون السقوط في الوعظ؟

هذا يعتمد على ذوقك وموقفك، كما أظنّ. متأكّدٌ أنّ هناك شخصاً ما يعتقد أنّي كنتُ وعظياً. وجهة نظري أنْ أسرد القصة بأمانة قدر المستطاع، وعدم محاولة تقديم نفسي كشخص مثالي في الأوقات كلّها. لذلك، كنتُ أحاول إظهار أنّ سلوك الطفل بغيضٌ جدّاً في بعض المواقف. أتفهّم بالتالي أنْ يقول البعض: "لا أتحمّل هذا الطفل، ولا أحبّ الفيلم". أعتقدُ أنّ الجواب سيكون محاولة عدم الإجابة عن الأسئلة، بل إظهار وجهة نظري للعالم، وكيف عشتُ تجربتي آنذاك، بصدقٍ ووضوح قدر المستطاع. أنْ أقتسم فقط ما كنتُ أراه حينها. إصدار الأحكام سهلٌ، أساساً، وأصبح أسهل اليوم بوجود وسائل التواصل الاجتماعي. يعتقد الجميع أنّهم يعرفون ما هو الأفضل. هذا أدّى إلى إبراز أسوأ ما في الشخصية البشرية على الإطلاق: الأخلاقوية.

هذا مُثيرٌ للاشمئزاز. ألحق ضرراً حقيقياً بالفن. وظيفة الفنان الحقيقي ليست ابتكار عمل يبيع لك فكرةً عن تميّزه كشخص. ينبغي أنْ نسعى للسموّ بأنفسنا، لا أنْ نتباهى ونُظهِر كم نحن عظماء. أعتقدُ أنّ ما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي، حين حصرت نقاش الأشياء في 280 حرفاً أو جملتين، أنّها منحت الجميع إحساساً بموقفهم الأخلاقي الثابت. هذا مثلٌ على ما أقصد: إذا قلتُ لوالدي، عام 1980، وهو الرجل الذي عمل على إصلاح سخّانات الآخرين في الثمانينيات، وكان يعاني بحقّ: "أبي. أنتَ تستفيد من امتياز عرقي"، كان سيردّ: "هل أنت مجنون؟ هل فقدت عقلك؟". كان يُمكن أنْ يكون مُحقّاً، لكنّه أيضاً كان سيكون مُخطئاً، لأنّه استفاد فعلاً من بعض الامتيازات. اليوم، هناك مغفّلون عديدون يكتبون مقالات بلهاء، تتلخّص فكرتها في: "ماذا؟ أنتَ لا تعرف حقوقك الامتيازية؟ يا لك من أحمق! مغفّلٌ وسخيف". هذا ليس مفيداً لما يعنيه أنْ تكون شخصاً ينتمي إلى العالم. علينا أنْ نتواصل. الأمر يتعلّق بتوسيع دائرة التعاطف، وفكرة أنْ نروّج لرؤية معقّدة وغير أحادية للعالم. ما نعيشه اليوم، على العكس، صداميّ ومُحبط للمعنويات.

 

 

(*) أشعر بانتقادٍ لموجة الـ"ووك" (موجة التنبيه إلى التمييز العنصري، التي نشأت في الولايات المتحدة الأميركية، وامتدّت لتشمل الوعي بعدم المساواة الاجتماعية ـ المحرّر) في كلامك.

ليس حقاً. أعتقد أنّ 80 بالمائة من الـ"ووك" رائع. النضال من أجل العدالة الاجتماعية مذهلٌ، لكنْ هناك نسبة من الأشياء وسطه أجدها سخيفة وعبثية. عندما نبدأ في القراءة عن فنان رائع، كفيليب غوستون، وتُنظَّم له عروض استرجاعية، ثم يجري إلغاؤها أو تنقيلها، بحجّة أنه رسم الـ"كلان" (منظّمة "كلو كلوكس كلان" ـ المحرّر)، بينما تعرّض هو نفسه لعنف هذه المنظّمة، تعلم عندها أنّ هناك خطباً غير سوي في تقييم الفن. الشيء الآخر الذي أود قوله، ولا أعرف إلى أي مدى ينسحب على الـ"ووك": ما هو أخلاقي وفاضل اليوم، لن يكون بالضرورة معيار الأخلاق بعد 20 أو 30 أو 50 عاماً. عند ذلك، أين سيكون هؤلاء الناس؟ تخيّل حجم الحماقات التي نسمعها: "ميكال أنجلو ميريزي دا كارافاجّو لم يكن حاضراً في مشهد القيامة، ولم يكن هو نفسه يهودياً سفاردياً. كيف يكون له الحقّ في تمثّل قصة يسوع؟". لنفكّر في عبثية موقف كهذا. إنه يجعل مجال النقد هذا بأكمله أخرق وغبيّاً.

 

(*) مرةً، قلتَ إنّك لم تعد تؤمن بالحلم الأميركي، وإنّه "محض هراء".

لا. لن أصف الأمور بهذه الطريقة. الأمر أعقد من ذلك. أعتقد أنّ كلّ حضارة، تحقّق نوعاً من النجاح، تتطلّب الإيمان بنوعٍ من الأسطورة الجماعية، والحلم الأميركي لعب هذا الدور. جزءٌ واضح من أسباب التوترات، ولا سيما في الثقافة الأميركية، لكنْ في العالم أيضاً، يرجع إلى أنّ إمكانية الارتقاء الاجتماعي أضحت اليوم موضع تساؤل. لكنّها كانت محطّ تساؤل حقاً منذ عام 1980، تقريباً. تتمتّع القوى الرأسمالية والشركات الكبرى بسلطة هائلة. أعتقد أنّ الناس، في أنحاء العالم، بدأوا يشعرون بنقص فرصهم في الارتقاء. هكذا، أضحى الحلم الأميركي اليوم موضع شك، وهذا سبب الصراعات التي نشهدها.

هناك أيضاً سببٌ أعمق، كما أعتقد: الصعوبة التي نواجهها في إبراز قيادات جديدة. ينطبق هذا على العالم المتقدّم كلّه، ويرجع إلى الجهد المبذول لتدمير "نظرية الرجل العظيم" في تفسير التاريخ. حين تفقد تلك الأسطورة، تكون قد قتلتَ أيضاً رغبة البعض في أن يكونوا أفضل. بالتالي، ربما يفتقر الناس إلى الطموح الضروري للقيام بأشياء عظيمة.

هناك شيء انحرف عن مساره في طريق الإنسانية. لا أعرف بالضبط، قد يكون الأمر مرتبطاً بما ذكرناه للتوّ، حول العلاقة القائمة بين العمل الفني واحترام المواقف الأخلاقية الصحيحة. كذلك فإنّ التعليم لا يساعد اليوم، لأنّه أضحى شبه امتدادٍ للتدريب على العمل، بدلاً من أنْ يحرص على تثقيف الأشخاص، ومدّهم بتكوينٍ جيّد في الآداب والفنون. هذا كلّه مترابطٌ نوعاً ما، أليس كذلك؟ كثيرٌ منه يتعلّق بوصول الرأسمالية إلى مرحلة من التطوّر، لا توجد فيها أي قوّة موازنة لها. الأمر يعتمد على جني الأموال، وكلّ شيء يتوقّف على المعاملات. لا يمكنك اليوم تلقّي معارف في المدرسة، التي يُفترض بها أنْ تجعلك شخصاً أفضل. "كيف يمكن تحقيق دخلٍ من ذلك؟"، بات السؤال الوحيد. حتّى فكرة القيادة اليوم تقتصر على تحقيق دخل أكبر. لذا، أعتقد أنّ جيل الشباب تائهٌ قليلاً اليوم.

المساهمون