حَلّ المخرج الأميركي جيمس غراي، للمرّة الرابعة، في مرّاكش، بمناسبة تكريمه في الدورة الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان الدولي للفيلم" عن مجمل مساره، وتقديم فيلمه الروائي الطويل الـ8، "يوم هرمغدون"، في عرض احتفالي (غالا)، بعد ترؤسه لجنة تحكيم الدورة الـ17 (30 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 8 ديسمبر/كانون الأول 2018)، وتقديمه "ماستركلاس" في الدورة الـ13 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2012)، ظلّت راسخةً في الأذهان.
في فيلمه الأخير هذا، ينبري غراي (1969)، بأسلوبٍ شفّاف ومُضلّل في بساطته، لقصّة مُتجذّرة في سيرة طفولته في "كوينز" (نيويورك)، حيث يتربّى الصبيّ بول غْراف (مايكل بانكز رِبِتا) في عائلةٍ ذات أصول يهودية أوكرانية، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، لوالدٍ صارم الطباع، وتنشأ صداقة بينه وبين زميله في الصف جوني (جايلن ويب)، ذي الأصول الأفريقية، موازاة مع تفتّق حساسيته الفنية في الرسم التشكيلي.
حبكةٌ تلقي ضوءاً جديداً على الحضور الطاغي لثيمة علاقة الأب ـ الابن، وتمرير الشاهد بين الأجيال في طرح أفلامه، رغم أنّه يقاربها هنا بقادمٍ جديد، يتمثّل بشخصية الجدّ (أنتوني هوبكنز)، الناجي من المحرقة، الذي يُعوِّض ـ بقربه من بول وتفهّمه إياه ـ عن صلافة الروابط الأبوية. طابع الحميمية هذا لم يمنع المخرج من ملامسة أسئلة حارقة، كالتمييز ضد السود، من خلال تعرض جوني لعقوبات أقسى عن شغبه في الصفّ، وانتهاءً بدفع ثمن أغلى من زميله بول لقاء تمرّده، ما يؤدّي إلى تمزّق هذا الأخير بين ما تقتضيه قيم الصداقة، والوقوف إلى جانب الحقّ في كفّة، وما يفتيه وازع الاندماج المهمّ لعائلة يهودية، غيّرت اسمها إلى غراف، في الكفّة المقابلة.
انقسامٌ يجد صداه في مشهدين رائعين، أحدهما يعصر القلوب، ويحبس الدموع في العيون، من فرط صدقه وتأثيره من دون الانزلاق إلى البكائية، حين يجلس بول قرب جدّه على كرسي وسط حديقة، وينطلق هوبكنز في مونولوغ رائع عن أهمية مساندة الحقّ، وعدم الاختباء في موقف اللامبالاة، قبل أنْ ينتهي المشهد بإطلاق ناجحٍ لمكّوك صغير (تفصيل يقول كلّ شيء). ثمّ المشهد الخانق، الذي يجمع بول بالأب في الفضاء الضيّق للسيارة، حين يلجأ الوالد إلى قاموس "البقاء على قيد الحياة"، المتأصّل في الثقافة اليهودية، لتبرير ضرورة الاندماج بأيّ ثمن، وعدم لفت الأنظار.
لكنّ الضربة الكبرى للمعلّم غراي، الكامنة في السيناريو، متمثلّةٌ في الجينيالوجيا العبقرية، بتواريها ورهافتها اللذين ينجزهما لبواعث الفكر المؤدّي بالولايات المتحدة الأميركية إلى متاهة دونالد ترامب، وأيديولوجيا التعصّب اليميني، والنفعية الكلبية التي يمثّلها، من خلال حبكة نقل بول إلى مدرسة "كيو فورست" الخصوصية، التي تتلقّى تمويلاً من فْرِد ترامب (والد دونالد)، ضد إرادته، وبإيعاز من جدّه (فكرة ازدواجية المواقف، العزيزة على المخرج)، حيث يغترب وسط بيئةٍ تساند ترشيح رونالد ريغان، تمجّد المظاهر (أهمّية الهندام)، ولا تتقبّل أيّ شيء من دون التفكير المسبق في ما يمكن جنيه كربحٍ مادّي منه.
في أحد المشاهد الدّالة، ينظر الزملاء الجدد لبول في "كيو فورست" إليه باستغراب، وهو مستغرقٌ في الرسم، قبل أن يسأله أحدهم: "ماذا تفعل؟"، فيجيب: "أحاول رسم يدي؟". يعقد الزميل حاجبيه، متسائلاً: "لماذا؟". مشهد قصيرٌ، لكنّه يلتقط وجهاً أساسياً لطرح مخرج مؤلّف، يحسّ بالاغتراب نفسه وسط عالمٍ يتطرّف، يوماً بعد يوم، في نوازعه الرأسمالية، التي تربط كلّ شيء بالمال، بينما يقوم الفنّ والسينما على جدوى الجمال، وقيم الحق.
أفكارٌ يعبّر عنها جيمس غراي باستفاضةٍ عالمةٍ، وبصدقٍ بالغ، في هذا الحوار الطويل في "فندق المامونية"، في الدورة الـ19 نفسها. في اللقاء، متابعة لمخرج كبير في أحواله كلّها (انشراح، يأس، أمل، استياء، غضب، روح دعابة، إلخ.)، مع تقاسمٍ لرؤيته إزاء طرح "يوم هرمغدون" وجمالياته، وبعض أفلامه السابقة. كما يبسط تفاصيل قيّمة عن مقاربة اشتغاله، موضحاً بالـ"ميلانكوليا" المازجة بين المسافة والالتزام، وخفّة الدّم والمرارة، التي يمتلك سرّ بثّها في أفلامه، ونظرته عن دور الفنّ وسط عالمٍ تتسيّده المادية الرأسمالية، وتهديد الأحكام الأخلاقوية التي وجدت في شبكات التواصل الاجتماعي منصّةً لنشر خطابها.
(*) عندما كنتَ رئيس لجنة التحكيم هنا في مرّاكش، عام 2018، قلتَ إنّ صنع لجان تحكيم مهرجانات تضمّ فقط مخرجين لا يعود بالنفع على الأفلام المتنافسة. كيف ذلك؟
ما قصدته، ولا أزال أؤمن به، أنّك بحاجة إلى أصوات مختلفة في لجان التحكيم. هناك مشكلة، إذا لم يكن لديك سوى مخرجين إلى جانب ممثّلَين و3 ممثّلات. يصبح الأمر أشبه بالاستغراق في الذات (التّحديق في السرّة). كما تعلم، نعيش جميعنا في فقاعة. لكلّ منّا فقاعة خاصة به، لكن إذا كان بجانبك رسّام أو كاتب أو ناقد، فهذا يصنع مجموعة متنوعة الخبرات، ويمكنك في هذه الحالة مقاربة العمل بنوعٍ من المسافة. أمّا إذا كان الأمر يقتصر على مجموعة من المخرجين، فنحن نكوّن فريقاً متنافساً وفقيراً، وهذا ما يؤدّي إلى تشويه الرؤية إلى حدٍّ ما. انظر: أحببتُ عدداً كبيراً من الأفلام التي شاهدتها عام 2018. أعتقد أنّه من بين 14 فيلماً في المسابقة، أحببتُ شيئاً ما فيها كلّها، ووجدتُ أنّ 10 منها جيّدة حقاً. هذا عدد كبير. يصبح اختيار فائزٍ، في هذه الحالة، فعلاً من قبيل العبث.
لديّ نفورٌ حقيقي من فكرة الجوائز، وأشياء مثل هذه، في الأحوال كلّها. لهذا السبب بالضبط حرصت، في حفل الختام، على أنْ تقف فرق الأفلام المشاركة تباعاً لتلقّي تحيّة الجمهور. آمل أنْ تصبح الجوائز مجرّد فكرة ثانوية.
(*) ربما يكون "يوم هرمغدون" فيلمك الأكثر شخصانية حتى اليوم. ما مقدار سيرتك الذاتية فيه حقّا؟
الفيلم يعتمد كثيراً على سيرتي الذاتية. أحاول دائماً جعل أفلامي شخصانية، حتى لو لم تكن سيرة ذاتية. مهم أن يتضمّن عملك أشياء تعني لك الكثير. في هذا الفيلم، أردتُ فقط إعادة اكتشاف ما أحببته في السينما، أولاً. أنْ أحاول صنع شيءٍ حميمي وأصلي، يرتبط بتجربتي قدر الإمكان.
(*) نهجك شخصاني دائماً. هناك جانبٌ إنساني في قصصك، حتى لو صوّرت فيلماً بميزانيات ضخمة، كـ"إلى النّجوم". كيف تعثر على مواضيعك وقصصك التي تحقّق فيلماً عنها؟
هذا سؤال جيد. لكنْ تكاد الإجابة عنه تكون مستحيلة. أحياناً، تتلقّى تحفيزاً من أشياء مختلفة. تثيرك مقطوعة موسيقية، أو رائحة طهي وجبة ما، أو مزاجٌ تكون فيه بعد ليلة من دون نوم. أنتَ لا تعرف حقاً السبب المحدّد. ما يستوقفني دائماً، ويمكنني الارتباط به بطريقة عميقة، شيءٌ ما أو شعورٌ داخلي.
في حالة "إلى النّجوم"، كنتُ مدفوعاً بأمرين. أتذكّر أنّي بدأت بمحاولة صنع الأوديسة، لكنْ من وجهة نظر تليماخوس ("أوديسة" هوميروس من وجهة نظر تليماخوس، ابن عوليس ـ المحرّر). هذا نوعٌ من إحدى القوى الموجِّهة التي بدأتُ بها، والثاني حول أنّ الناس يبحثون دائماً عن إجابات أبعد مما يحتاجون إليه، فيما اللانهائي الحقيقي الوحيد أرواحنا. كيف أنّ الناس يقولون دائماً: "حسناً، ربما لو بحثنا أبعد سنجد الإجابة". المُثير أنّ ويليام شاتنر، الممثل، ذهب فعلاً إلى الفضاء، وعندما عاد قال إنّ كلّ ما شعر به هو الحزن. رأى الأرض من بعيد، فملأه ذلك أسىً. هذا، نوعاً ما، الشعور الذي حاولت تصويره في هذا الفيلم.
(*) رأى نقّاد في "مدينة زي المفقودة" و"إلى النّجوم" نوعاً من الثنائية، باعتبار حضور علاقة الأب ـ الابن في كليهما، واشتمالهما على السعي إلى يوتوبيا وسط الأدغال في الأول، وفي أقاصي الفضاء في الثاني. هل تراهما كذلك؟
أعتقد ذلك. نعم. هناك ترابط بينهما على أيّ حال. لم أفكّر في إنجازهما على هذا النحو: "سأحقّق هذا، ثم ذاك". لم يكن مُخطّطاً للأمر مسبقاً، لكنّي فكّرت في استكشاف قصّة الأب الذي يأخذ الابن معه أوّلاً، ثم في المرة المقبلة، يتعيّن على الابن البحث عن الأب الذي لم يأخذه معه. هذا، بالتأكيد، كان حاضراً في ذهني. البشر لا يكفّون عن البحث، لأنّهم واعون بفنائهم المحتوم. هذا يسبّب لنا عصاباً، وقلقاً وكرباً دائمين. نقوم بعمل ممتاز على أساس يومي لننسى الأمر، أليس كذلك؟ نستيقظ صباحاً ونقول: "ضجيج أشغال البناء عالٍ جداً في الجوار"، أو "أمضيتُ ليلةً سيّئة"، أو "كانت تلك وجبةً ممتازة". كلّ هذا تسلية. لكنْ، ما يفعله الجنس البشري حقاً، عندما يجتهد في سعيٍ من هذا القبيل، إيجاد مخرج من الفناء. الفنّ يحاول التعبير عن هذه الفكرة بطرق مختلفة.