جان ـ بول بلموندو: "ألف حياة أفضل من واحدة"

08 سبتمبر 2021
قادرٌ على ابتكار شكلٍ آخر للوسامة الساحرة (غابي سومير/ Getty)
+ الخط -

يرى الفرنسي جان ـ بول بلموندو أنّ "ألف حياة أفضل من واحدة"، فيختارها عنواناً لمقتفطاتٍ من سيرته الذاتية (كتاب الجيب ـ 2018)، التي يكتشف قرّاؤها أنّ حياةً واحدة لشخصٍ مثله غير كافية البتّة، وأنّ ألف حياة أخرى تبقى أساس عيشٍ، يُتقن التزامه (العيش) في مفرداته المختلفة إلى حدّ التناقض. سيرة يرويها بنبرته، وإنْ يغلب عليها هدوء وسلاسة، غير معنيّ بهما في فصولٍ عدّة منها. سيرة يريدها بلموندو، الراحل في 6 سبتمبر/ أيلول 2021، مرآة أو أكثر لنبضٍ صاخبٍ في حياةٍ، يوزّعها على البراري الشاسعة في ريفٍ، يُغادره صغيراً إلى باريس، فتكون الاكتشافات مَعبَراً له إلى عوالم تُسحره، قبل أنْ يُصبح ساحراً، يتوق إليه كثيرون، في زمنٍ يتجاوز 60 عاماً بقليل. ساحرٌ يمتلك وجهاً غير حَسنٍ، لمن يُفترض به أنْ يسحر أجيالاً كاملة، لكنّه ـ لشدّة ما فيه من توقٍ إلى صُنع المستحيل وعيشه ـ قادرٌ على ابتكار شكلٍ آخر للوسامة الساحرة، على نقيض صديقه وغريمه في آنٍ واحدٍ، آلان دولون (1935)، الذي يصغره بعامين و7 أشهرٍ فقط، الأوسم منه.

رقمٌ كهذا (60 عاماً)، يستحيل أنْ يتجرّد من مضمونٍ أعمق من أنْ يُختزل بسنين، وأهمّ من أنْ يُحاصَر بمجرّد أعمالٍ، فيها ما يُبهر، وفيها ما يُثير متعاً، وفيها ما يُنفِّر مشاهدين سيكونون معه أوفياء، رغم نفورٍ كهذا، حتّى اللحظة الأخيرة. فالأعوام الكثيرة تصنع حياةً، لعلّها تلك التي يتوق إليها بلموندو (مواليد 9 إبريل/ نيسان 1933)، فيعيشها كأنّها ألف حياة. أعوام تمرّ سريعاً، كأنّه فيها يقود إحدى سياراته السريعة على طرقات فرنسا وأوروبا، مع أنّه يُعاين مفاصلها ومنعطفاتها ومساراتها، وتبدّلاتها أيضاً، التي سيكون، أكثر من مرة، أحد صانعيها أو المشاركين فيها. ألن يكون "أيقونة الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية، بعد وصفه بأنّه "وجه هذا التيار الذي يُثوِّر الفن السابع"، مع تمثيله عام 1960 في "إلى آخر نَفَس" (A Bout De Souffle) لجان ـ لوك غودار ("لو فيغارو"، 6 سبتمبر/ أيلول 2021)؟

الممثل تلميذٌ غير ملتزم بالدراسة والتهذيب وقوانين المدرسة. رافضٌ دائمٌ لضيقٍ يرى أنّ التزاماتٍ كهذه تجعله ثقيل الوطأة، فالمراهق عاشقٌ لتلك المسافات الشاسعة، وباريس المدينة تمنحه، بأزقّتها وملاهيها ومسرحها (قبل شاشاتها واستديوهاتها)، شيئاً كبيراً وجميلاً وكثيراً من تلك المسافات. يروي، في "ألف حياة أفضل من واحدة"، بعض تلك التفاصيل التي ستكون ركيزة وعي وعقل وتأمّل وانفعالٍ في سيرته المهنية اللاحقة. والده بول (1898 ـ 1982)، فنانٌ، ينصرف يومياً إلى رسومٍ ومنحوتات، ويُصرّ على مرافقة عائلته إلى "متحف اللوفر" كطقس ثابتٍ، فالمتحف هذا مصنع أحلامٍ وحبّ وعيش. ينتقل الأب من شارعٍ إلى آخر، فيكتشف بلموندو الصغير ما يتراكم في لاوعيه، كمن يملأ ذاته بما يستعين به لاحقاً في مهنةٍ، يكون فيها ممثلاً ومنتجاً (تجربة الإنتاج متشابهة مع تلك التي لدولون أيضاً، من دون اشتغالاتٍ إنتاجية فاعلة ومؤثّرة)، بدءاً من المسرح، الذي له الفضل كلّه في تثقيفه وتنبّهه إلى أساسيات المهنة وهوامشها، وفي صقل مخزونه متنوّع المصادر، جاعلاً منه ذاك "النجم"، الذي سيبقى طويلاً في ذاكرة أكثر من جيل سينمائيّ.

كلّ شيءٍ لبلموندو مأخوذٌ من المسرح (فرانس برس)

المسرح أشبه بمَطْهرٍ أوّل وجوهري له، إذْ فيه يُتقن كيفية النطق، وقول الحوارات، وتحريك الجسد، وصُنع الملامح، وابتكار الشخصيات وسلوكها وانفعالاتها. كلّ شيءٍ لبلموندو مأخوذٌ من المسرح، وأبرز شيءٍ اطّلاعه على مسرحياتٍ جمّة، ستكون عَصَب وعيه في المهنة والعلاقات والعيش. مع أنّه، قبل المسرح والفنّ، يميل إلى الرياضة، كركوب الدراجات الهوائية وكرة القدم (حارس مرمى الفريق المدرسيّ) والملاكمة، وهذه الأخيرة أقوى تأثيراً فيه، فيمارسها في مراهقته، كهاوٍ لفترةٍ طويلة، وكمحترفٍ لفترة أقلّ، مُحقِّقاً 4 انتصاراتٍ. يقول إنّ متابعتَه عبر الإذاعة مباراة بين الفرنسي مارسيل سردان والأميركي توني زال، المنتهية بفوز الأول، سببٌ لإلحاح فكرة واحدة عليه: ممارسة الملاكمة. يقول: "لكنْ، كي يُلاكم المرء، عليه أنْ يكون جائعاً وكارهاً. هذه ليست حالتي" ("باري ماتش"، 14 إبريل/ نيسان 2013). هذا حاصلٌ عام 1948، العام نفسه الذي يشهد انبهاره بـ"النساء العالِمات" (1672) لموليير، في نسخة جديدة حينها، وفي العام التالي، يعود إلى هدوء الريف ونقائه وسكينته الداخلية، بعد اكتشاف والديه أنّه مُصاب بالعوارض الأولى للسلّ. هناك، يتأكّد من أمرٍ واحدٍ: سيكون ممثلاً.

يستحيل ذكر أسماء الذين تعامل معهم، في السينما والمسرح. لكنّ لبعضهم تأثيراً عميقاً في اشتغالاتٍ، ستكون كلّها إضافات أساسية في الإخراج والتمثيل وحركة الكاميرا والتوليف والكتابة: آلان رينيه، ولوي مال، وفيليب دو بروكا، وهنري فرنوي، وجان ـ لوك غودار، وكلود شابرول، وفرنسوا تروفو، وكلود سوتي، وجان ـ بيار ملفيل، وكلود لولوش، وآخرين، من دون تناسي الإيطاليّين فيتّوريو دي سيكا ومَاوْرو بولونيني، والبريطاني بيتر بروك. هذا يسهل الحصول عليه، فالمراجع عديدة، والتوثيق حاضر، والمُشاهدة وفيرة.

بلموندو وديلون (باتريك كوفاريك/ فرانس برس)
بلموندو وديلون: نجمان يصعب ضبطهما (باتريك كوفاريك/ فرانس برس)

حكايات جان ـ بول بلموندو كثيرة، في المهنة والحياة والعلاقات. صداقته مع آلان دولون تتساوى في شهرتها وحالات الابتعاد والنفور بينهما، لأوقاتٍ عدّة. نجمان يصعب ضبطهما، وممثلان قادران على تحطيم كلّ شيءٍ، ورجلان مؤذيان (عن قصدٍ أو من دونه)، كما يتأذّيان من كلّ أحد. لعلّها أكثر الصداقات/ العداوات (ينفيان معاً وجودها، بينما يُفضِّل بعض المقرّبين منهما وصفها بابتعادٍ لا بعداوة) شهرةً، والنفور ناتجٌ من تنافسٍ على شبّاك التذاكر، أو بسبب النجومية، أو ربما للمرأة دور. الغليان متنوّع الأشكال، الحاصل في خمسينيات القرن الـ20 وستينياته وسبعينياته تحديداً، في فرنسا والعالم، يُحتّم صداماً بين نجمين مثلهما، بل بين "اثنين من وحوش السينما الفرنسية" ("لو نوفيل أوبسرفاتور"، 6 سبتمبر/ أيلول 2021). لكنْ، يُقال إنّ الأساسي بينهما أقوى من الهشّ، فالصداقة أهمّ، وإنْ على ابتعادٍ، وللابتعاد ظروف وأحوال.

الآن، يُغادر بلموندو بعد أقل من 5 أشهرٍ على احتفاله بعيد ميلاده الـ88، تاركاً ألف حياة، لن تكون مشاهدتها سهلة على الإطلاق.

المساهمون