"ثملٌ" لتوماس فنتربيرغ: سردٌ ذكي يُلامس حالات إنسانية دقيقة

08 يناير 2021
توماس فنتبرغ في مهرجان ليون 2020 مُقدّماً "ثمل" (سيلفان لوفافر/ وايرإيماج)
+ الخط -

يقال إنّ فلاناً "فرحٌ حدّ الثّمالة"، تعبيراً عن سرورٍ عارمٍ يُسكِر من يسكنه. لعلّ هذه العبارة تُترجِم، بإخلاصٍ وعمقٍ، فحوى "ثمل" (2020)، للدنماركي توماس فنتربيرغ (1969)، سيما أنّها تجد تجلّيها الأسمى في مشهد النهاية.

مارتن (ماس ميكلسن) مُدرّس تاريخ، في عقده الخامس. يمرّ في أزمة وجودية، تُلقي ظلالها على توازن حياته العاطفية والعملية. يفقد طعم الأشياء، وأوّلها التدريس وشغف الاقتسام مع تلاميذه، فيُخاطر ـ رفقة ثلاثة مُدرّسين زملاء له في المدرسة الثانوية نفسها ـ بتطبيق تجربةٍ، تقتضي شرب الكحول بشكل مستمرّ ومستتر، مع الحفاظ على نسبة معيّنة (0.05 بالمئة) منه في الدم، تيمّناً بقول الفيلسوف وعالم النفس النرويجي فينّ سكاردورد: ينبغي على الإنسان تناول قدر معيّن من الكحول طول الوقت، لأنّه "وُلد مع نقص كحول بنسبة 0.05 بالمئة في دمه".

إذا كانت لازمة إدمان الكحول تُعدّ من كلاسيكيات السينما، باعتبارها غذاءً لسيناريوهات أفلامٍ مهمّة كثيرة، كـ"نهاية أسبوع مفقودة" (1945) لبيلي وايلدر، و"أسفل البركان" (1984) لجون هيوستن، و"مغادرة لاس فيغاس" (1995) لمايك فيغيس، وحتّى أحد أبرز أفلام العام الماضي، "مانك" (2020) لديفيد فينشر؛ فإنّ أصالة سيناريو فنتربيرغ وتوبياس ليندهولم (1977)، في تعاونهما الفني الرابع، تتمثّل في تناول الموضوع من زاوية التجربة الواعية، المتبنّاة للمراقبة والتصحيح، على مستوى النوايا على الأقلّ، لاختبار مدى قدرة الإنسان على حصر علاقته بالكحول في نطاق تأثيرٍ محدود ومحمود، وبالتالي المجازفة بقدر معيّن من عدم التحكّم في الأشياء، وإبطال كابح النوازع والمثبِطَات النفسية الطبيعية تجاه تحدّيات الحياة اليومية، بغية الدخول في علاقة جديدة مع الوجود، يطبعها الانطلاق والمغامرة وحرية قول الأشياء التي ينبغي أنْ تقال، وفعل تلك التي تستحقّ أنْ تعاش. أي: المضيّ في الحياة إلى منتهاها، بدل الاكتفاء بمنتصف الطريق، على حدّ تعبير الفرنسيين.

في البداية، تسهم التجربة، بشكل بَيِّن، في بعث شعلة الشغف، وإذكاء جذوة الحماسة في الأداء الوظيفي للمدرّسين الأربعة، وعلاقاتهم العاطفية إلى حدّ ما. لكنّ شبح فقدان التحكّم، اللّصيق بتناول الكحول، ما فَتئ يطلّ برأسه، مُنبئاً بمشاكل وتعقيدات تهدّد توازنهم المعيشي.

في العمق، هذا فيلمٌ عن فقدان فرح الشباب وعنفوانهم، مع توالي السّنين، وتراكم صدأ العيش الرتيب والمملّ على صفحة وجود الإنسان وعلاقاته بمحيطه. من هنا مرمى الاقتباس الممهور بإسم سورين كيركِغارد، فيلسوف العيش المتفرّد، اتفاقاً مع الواقع وسلطة الاختيار، الذي يفتتح الفيلم: "ـ ما الشباب؟ ـ حلمٌ. ـ وما الحبّ؟ ـ مكنون الحلم". ثمّ المشهد الذي يليه مباشرة، حول التقليد المتأصّل بين الشباب الدنماركي في الاحتفال بانتهاء العام الدراسي، بشرب الجعة بكميات وفيرة، وخوض مسابقات جري بطقوسٍ معينة، يليها الاحتفال بالتجوّل وسط المدينة في حالة سكر طافح.

 

 

في هذا كلّه، توطئة أساسية تقول إنّ مرحلة الشباب لا تخشى المغالاة في شرب الكحول، في سياق مُحدّد، وتعتبر ذلك جزءاً من حلاوة الاحتفاء بالحياة ونجاحاتها. كأنّ الإنسان، مع توالي طبقات العيش الملتزم بالإيقاعين العائلي والوظيفي، يفقد شيئاً فشيئاً ملكة الفرح، حدّ افتقادها كلّياً، في إشارة بالغة الذكاء إلى ما سيأتي من محاولات مارتن ورفاقه في السعي غير المجدي إلى إعادة الوصل مع فرح الحياة عبر شرب الكحول، فلا يجدون فيه سوى التّسريع بإخراج مشاكلهم الخبيئة إلى السطح، وتسعيرها بدرجات متفاوتة، حدّ الخلاف والانهيار، كما في حالة بعضهم، والصراحة المفضية إلى الافتراق، وإعادة التفكير في العلاقات، والسعي إلى بنائها على أسس جديدة، كما بالنسبة إلى البعض الآخر.

هكذا، يتموقع الفيلم في مكانٍ ما بين "حلقة الشعراء المفقودين" (1989) لبيتر وير و"أزواج" (1970) لجون كاسافيتيس، من حيث تركيز الأول على مجموعة هامشية، تحاول إنشاء علاقة جديدة مع الوجود، بعيداً عن نزعة الامتثال والجمود المسيطرة على محيطها؛ وسعي الثاني إلى التبئير على أواصر الصداقة بين أزواجٍ، يبحثون عن العودة إلى شعور الصداقة، بمعناه الطفولي واللعوب، عبر الانصهار في الشرب، وفقدان الإحساس بالالتزام بقيود الحياة الزوجية.

يفعل توماس فنتربيرغ ذلك من دون أيّ تنازل عن تميّز مقاربته المتجذّرة في مبادئ "دوغما 95"، رغم الكلاسيكية الظاهرية لـ"ثمل". يبرز هذا في عدم تردّده في تبنّي كاميرا مهتزّة، تلتصق بالشخصيات وأحاسيسها المضطربة في لحظات القلق، أو المهتاجة في فترات فقدان السيطرة بتأثير الثمالة، وتأجّج الخلافات الزوجية، أو التماهي مع الشغف بالاقتسام المتحمّس في الصفّ. من دون تناسي مجازفاته الخلاّقة، المتّسمة بالشفافية الإخراجية، التي تذكّر بأننا بصدد مشاهدةِ فيلمٍ، حين تسودُّ الشاشة ليظهر فوقها تأرجح مقياس نسبة الكحول في الدم، أو محتوى تواصل مارتن مع زوجته عبر الرسائل النصية، أو بمناسبة المشهد ـ القوس، الرائع بطرافته واحتفاليته عن حالات السّكر المشهورة لدى السياسيين أثناء مزاولتهم مهامهم.

يتلوّن الفيلم تارةً بأجواء "احتفال" (1998)، والبراعة المعروفة لفنتربيرغ في إدارة الممثلين، وطبخ مشاعرهم الدفينة على نار هادئة، من لقطات الحقل والحقل المقابل، قبل أن تنفجر، كما في المشهد المحوري الطويل لاحتفال الرفاق الأربعة بعيد ميلاد أحدهم في مطعمٍ فاخر، حيث يتمّ الحديث عن فكرة تأثير الكحول على الحياة للمرّة الأولى؛ وتارةً أخرى بالأسلوب المستبطَن لـ"صيد" (2012)، بالاعتماد على المهارة الاستثنائية لمادس ميكلسن في ترجمة مشاعر عدم فهم الفرد من طرف الجماعة، والاغتراب الناجم عن ذلك، فقط من خلال نظراته وتعبيرية قسمات وجهه.

يُلاحظ أيضاً التأثير العميق لـ"الدوغما" على الفيلم، بالاعتماد على الإنارة الطبيعية في مَشاهد عدّة، بما في ذلك تصوير الشخصيات على خلفية ضوء مبهر (كونتر ـ جور)، كي تبدو كتلةً سوداء، تترجم الإحساس بالحيرة والعزلة، ثمّ تركيزه على أجواء اللعب (بمعناه الصّبياني) بشكل ارتجالي وغير متحكّم فيه، كما في أفلام طبعت تاريخ هذا التيار الجمالي، كـ"المعتوهون" (1998) للارس فون ترير.

يبقى النجاح الأسمى لـ"ثمل" ـ الذي يجعله أحد أفضل أفلام 2020، رغم محدودية إشعاعه، المترتّبة عن إلغاء مسابقات المهرجانات الكبرى، وإغلاق صالات السينما بسبب كورونا ـ كامناً في رهانه على "دوزاج" جرعات الأحاسيس (تماماً كحساب نسبة الكحول في الدم)، عبر سردٍ ذكي، قوامه مواقف وانعطافات درامية متأرجحة وفق إيقاع مضبوط بين الفرحة والخيبة، لا تخشى تدفّق المشاعر في لحظات محدّدة، من دون أن تصبّ في العاطفية والكليشيهات المتوقّعة، ما أتاح له ملامسة حالات إنسانية دقيقة، والخطاب الموحي ومتعدّد الأوجه، المُرافق لها بشكلٍ جميل ومؤثّر، يشدّ المُشاهِد حتّى النهاية.

المساهمون