ثلاثة مستويات سينمائية لأفلام ما بعد اعتداءات سبتمبر

11 سبتمبر 2021
نيكولاس كيج في "مركز التجارة العالمي" لأوليفر ستون (IMDb)
+ الخط -

تغذّت السينما الأميركية، منذ تأسيسها، من الأحداث والكوارث الكبرى. نسجت منها قصصاً سينمائية، وفق سياق مصالحها الثقافية والاقتصادية والمجتمعية. قدّمتها إلى الجمهور، بعد إحاطتها بتوابل الفرجة والتسلية، فيكتمل نضوجها ونموّها، ويذوقها المتلقّي فيقع في لذّتها وغرامها، ويتلقّف ما فيها بشراهة من يبحث على ما يملأ شغفه وفضوله. في الوقت نفسه، تحدّد في هذا المنتج الثقافي اتجاهها الفكري ونظرتها إلى الأشياء، وفقاً لأسس معيّنة، مشبعة ببذور سرية زُرعت فيها، مغلّفة بالحقائق والمعطيات، بعد أن تصبغها بالعبارة الشهيرة "مستوحى أو مقتبس من أحداث حقيقية".

الجملة السحرية هذه باتت مفتاحاً يُغلق كلّ أبواب التأويل عند الجمهور، الذي يتلقّى ما فيها بكل أريحية، وينسى كلّياً المفاصل الموضوعة التي تحدّد صيغتَها الانتماءات الأيديولوجية. أحياناً، تأتي بتوجيهات مباشرة أو مضمرة من السلطات السياسية والأمنية. لهذا، بات الدور الأميركي في الحروب أكبر وأوسع وأنصع وأشجع من باقي الدول الأخرى عبر التاريخ، خاصة في الحربين العالميتين، وفقاً للسياق السينمائي، ونسي العالم الأدوار المحورية الأخرى التي لعبها آخرون، وتناسى الموتى الذين يعدّون بالملايين، وهذه ضريبة بشرية دفعتها الدول الأخرى، لكنّ سحر السينما ومفعولها القوي أسقط تلك الحقائق التاريخية، وبقيت حقائقه المزينة والمطعّمة والمنقّحة والمزيدة، تسبح فوق بحر السينما المتلاطم. هكذا فعلت مع الأحداث والوقائع التاريخية والحياتية، التي تجمّلها وفقاً لسرديتها الرسمية.

ووسط كلّ هذا، تخرج أفلامٌ، على قلّتها، تعاكس تلك المعطيات وتخرج عليها وتكذّبها، بعد أنْ تقدّم رؤيتها، انطلاقاً من المعطى الصحيح أو المخالف، لتكسر الهيمنة، وتضمن أنْ يكون هناك رأيٌ مخالف، يدفع بشعار "الرأي والرأي والآخر"، الذي تحاول أن تتبنّاه عادة الصناعة السينمائية الأميركية المهيمنة، وتناقضه المؤسّسات المستقلّة، التي تحاول رسم خطّ خاص بها، رغم صعوبة الأمر.

شكّلت بعض الأفلام الأميركية والعالمية، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، صورة جديدة ومغايرة عن العربيّ أو المسلم، بشكل عام، بعد أنْ ألصقت به صفة الإرهابي الباحث دائماً عن خراب الغرب وإبادته، من دون أنْ تُكلّف نفسها عناء إسقاط التعميم، الذي أضرّ بشريحة واسعة من هؤلاء المقيمين في شتى أنحاء العالم، وأصبحوا يُنظر إليهم على أنهم إرهابيون، كما اعتقل كثيرون منهم بمجرّد الشبهة، فيرمون في السجون أياماً، وأحياناً سنوات، من دون توجيه تهمة واحدة إليهم، كما حدث لكثيرين في سجن غوانتنامو. ساهم بعض الإعلام في خلق هذه السردية السوداء، إذْ لم تتوقّف نشراته التلفزيونية والمكتوبة عن تغذية الاتّهام، وتكريس تلك الصورة. من جهة أخرى، عَكَس الإنتاج السينمائي، عبر بعض الأفلام، هذه الصورة السلبية، بأسلوب أكثر حدة وقسوة وترسيخا، في الـ20 سنة الماضية، قبل أنْ تخفّ الاتهامات مع الوقت، ويصبح توجّه السينما أقل إيلاماً وتعميماً، ويسمح ببروز سردية بيضاء مختلفة، تقتات من الحقيقة، وتذهب إلى إدانات فردية لا جماعية.

يُمكن تقسيم الأفلام التي تناولت 11 سبتمبر إلى 3 مستويات سينمائية: الأول يعتمد على وجهة نظر السلطة السياسية، الذي أخذ حصّة الأسد من هذا الإنتاج، المنقسم بدوره إلى قسمين: أول عمّم الاتهام على كلّ من يحمل الديانة الإسلامية، كالبريطاني "ياسمين" (2004) لكينيث غلينان، الذي ينقل معاناة المسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر في بريطانيا، وأين أصبح الحكم على أيّ مسلم على أنّه إرهابي، بمجرّد أنّه ينتمي إلى عرق أو دين. وهذه تهمة جاهزة باتت تحاصرهم. وينقل الفيلم جانباً من هذه المعاناة والإدانة المسبقة، عن طريق الشابّة المسلمة ياسمين، التي يُعتقل زوجها بمجرّد الشبهة والشكّ. الثاني يُدين فيه المخرجون المجرمين فقط.

المستوى الثاني أفلامٌ تُبرّئ المسلمين من هذا التعميم، كأنّها تحاول القول إنّ الإسلام بريء من الإرهاب، والمسلمين ضحايا التطرّف أيضاً، كالهندي "اسمي خان" (2012) لكاران جوهر، الذي حقّق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وساهم بشكل ما في تغيير النظر إلى المسلم والعربي، مُقدّماً إياه شخصاً عادياً لا إرهابياً. يروي الفيلم قصّة رزوان خان، المسلم الهندي الذي يعاني مرض التوحّد. بعد وفاة أمه، ينتقل إلى الولايات المتحدة ويُقيم عند شقيقه ذاكر، ويتعرّف على فتاة هندوسية تُدعى مانديرا، مطلّقة وأم لابن من زواج سابق، فيُغرم بها. تتأزم الأحداث بعد انهيار برجي "مركز التجارة العالمي"، فيتعرّض المسلمون للاضطهاد.

المستوى الثالث تمثّله أفلامٌ تقول إنّ الحادثة برمّتها مؤامرة من السلطة الرسمية الأميركية للهيمنة والسيطرة، واحتلال أفغانستان، وفي الوقت نفسه استعمال حجّة الإرهاب ذريعة ومبرراً للتوسع في دول أخرى، وبسط النفوذ والهيمنة الأميركيين على خيراتها. هذا نوع محدود جداً، أنتِج وفقاً لنطاق ضيق، بسبب التوجّه الأيديولوجي، وتعقيد عجلة الإنتاج، وارتباطها بمراكز النفوذ وصناعة القرار السياسي، كالوثائقي "فهرنهايت 11/ 9" (2004) لمايكل مور، الذي أثار جدلاً عالمياً، خاصة بعد مشاركته في مهرجان "كانّ" عام 2004 حيث وفاز بـ"السعفة الذهبية"، رغم أنّه لم يسبق لوثائقيّ أنْ حصل عليها منذ عام 1956. روّج الفيلم لمؤامرة كبرى في أحداث 11 سبتمبر، متّهماً الرئيس جورج دبليو بوش بالوقوف خلفها، معزّزاً مضمونه بمواد تسجيلية وحقائق وتحليلات تؤكّد هذا الاتهام. ويرى آخرون بأنّه مجرّد سيناريو مفترض، يفتقد إلى الحقائق المثبتة.

ولّد الشكل السينمائي لكل مخرج سياقاً موضوعاتياً معيّناً، ارتكز عليه لتوليد طريقة معالجة تنتج الدراما أو الإثارة، أو العنصرين معاّ، كالأفلام التي تجري وقائعها في الطائرات التي نفّذت الاعتداءات، وهذا فضاء أو آلية مولّدة للفعل، استغلها المجرمون لتنفيذ هجومهم. بالإضافة إلى فضاء البرجين، كمكان عمراني سليم بعد الحادث بقليل، أو كفضاء محطّم بعد الهجوم، بتحوّل إلى أطلال في داخلها عشرات العالقين من الجرحى والجثث. هنا، يتحوّل هذا الفضاء إلى حيز مكاني منتج من ردة فعل إجرامية، ومن خلالها أو داخلها توظّف الخيارات النفسية والصُور السلوكية للبشر، حين يقفون وجهاً لوجه أمام المهالك والموت. النص كاملاً على الموقع.

هذا الاستثمار العاطفي يُعوّل عليه، نظراً إلى محدودية الموجود في كلّ فضاء، كما أنّه خيار صعب، يعتمد عليه المخرج عادة ليقتل الرتابة. أما نسبة نجاحه، فتكون لمن يحسن توظيف البعد السلوكي والنفسي للممثل، انطلاقاً من حبكة السيناريو وطريقة بنائه، وعادة ما تغيب الإدانة العرقية أو الدينية أو حتى يتم تغييب عملية البحث عن جذور أو أصل المشكلة المنتجة للإرهاب والهجمة.

انطلاقاً من هذا الخيار الشكلي، اختار المخرج الأميركي بول غرينغراس الفضاء الداخلي للطائرة كمسرحٍ لأحداث "يونايتد 93" (2006)، وهذا اسم الطائرة الحقيقية التي تحطّمت، والتابعة لشركة الطيران "يونايتد"، رحلة رقم 93، التي اختطفت لتنفيذ هجمات 11 سبتمبر باتجاه مبنى الكونغرس. هذه الفرضية لم تدعمها أي جهة رسمية، ولم تُذكر في التحقيقات، ولا في العلبة السوداء التي استُرجعت بعد سقوط الطائرة في حقل زراعي قرب شانكسفيل في ولاية بنسلفانيا. تفصيل أنتجه خيال المخرج، مع تفاصيل أخرى، ليصنع درامية فيلمه. كما اختار أوليفر ستون، في "مركز التجارة العالمي" (2006)، الفضاء الداخلي بين الأنقاض، من دون أن يغفل الفضاء الخارجي الذي وظّفه مسبقاً، لإحاطة المتلقي بمكان الأحداث، مع شحنه بالعاطفة الضرورية، وخلق نسيج تواصلي بينه وبين الضحايا الذين عرّفهم، حتى يصنع التأثير العاطفي المرجو. وبحسب الملخّص، يأتي الفيلم "في غمرة أحداث 11 سبتمبر، أين يهرع العديد من أفراد الشرطة ورجال الإنقاذ إلى مكان الحادث للمساعدة في إنقاذ أرواح الناس، ومن ضمن هؤلاء الرجال جون مكلوغلين ووِل هيمينو، وهما يعملان في شرطة الموانئ في نيويورك، وبينما يقومان بعملهما ينهار الحطام فوقهما، فيجدان نفسيهما محاصرين تحت الحطام في انتظار من ينقذهما".

سينما ودراما
التحديثات الحية

هذا ما ذهب في اتجاهه المخرج مارتن غيغي، في فيلم "11/9" (2017)، الذي يروي قصة 5 أفراد، يجدون أنفسهم محاصرين في مصعد البرج الشمالي في مركز التجارة العالمي، فيتّحدون معاً، ويحاولون من دون كلل الهروب قبل أن تقع أحداث مكروهة أو غير متوقعة. ركّز المخرج، كما ستون وغيرنغراس، على الفضاء الداخلي، لتحديد وتفسير معاناة الأشخاص الذين يواجهون الموت.

استمرّت عجلة الإنتاج السينمائي في دورانها إلى اليوم، رغم مرور 20 سنة كاملة. تزامنت الذكرى مع خروج القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان، التي احتلتها بحجة محاربة تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وحليفه الاستراتيجي حركة "طالبان"، التي سيطرت حالياً على الحكم في أفغانستان، بطريقة أثارت دهشة الكثيرين. وهذا ما سيغري السينما التي ستعيد تجسيد حادثة إجلاء الأميركيين والمتعاونين معهم من مطار كابول، وتعلّق الأفغان بالطائرة المحلّقة، وتطاير أجسادهم في الفضاء وارتطامها بإسفلت المطار الصلب، في مشهد حقيقي، لم تفكر فيه أكثر الأفلام خيالاً.

أفغانستان والعراق وغيرهما من الدول الأخرى فضاءٌ ناشط، جرت فيها أحداث أفلام كثيرة عن 11 سبتمبر، تناولت موضوع الحرب والمواجهة المباشرة وطريقة تعامل الجيوش العالمية مع فضاء كابول أو قندهار وعديد المدن الأخرى ذات التضاريس الصعبة، ومعظم تلك الأفلام تناول الخسارات الفادحة للجيش الأميركي ولجيوش الحلفاء، المتواجدة على الأرض الأفغانية، منها أفلام غير أميركية، نقلت وحشية المواجهة على الأرض الأفغانية، كالدنماركي "حرب" (2015) لتوبياس ليندهولم، الذي نقل مأساة الجندي كلاوس إم بيدرسن، المُشارك في الحرب الدائرة في أفغانستان مع جنودٍ بإمرته، وفي إحدى المهمات التقليدية، تعلق السرية في عملية تبادل إطلاق النار، ما يدفع كلاوس إلى اتّخاذ إجراء بالغ الصعوبة، وفي الوقت نفسه تحاول زوجته المحافظة على المنزل والأبناء في ظل غياب الأب.

في العام نفسه، أنتجت فرنسا "جبهة واخان" (2015) لكليمان كوجيتور، الذي ينقل مأساة جنود فرنسيين في المستنقع الأفغاني، الذي تسيل فيه دماء كثيرة، ولا أحد يُمكنه تفسير أو معرفة طريقة الحرب هناك. أبناء الأرض فقط، المتواجدون مع صخورها وترابها. لهذا، تبقى الكتائب في حالة تأهب دائم.

هناك عشرات الأفلام الأخرى التي تعاملت مع المستنقع الأفغاني، أو مع ما بعد 11 سبتمبر، بطريقة غير مباشرة. تأثير الموضوع حاضر فيها كهامش، وأحياناً يتحوّل الهامش، إذا استُغلّ بطريقة ذكية، إلى متن. منصّة "نتفليكس" أنتجت أفلاماً عدّة، بانتظار بدء مرحلة سينمائية جديدة، عن التبعات القانونية للجيش الاميركي، الذي ارتكب جرائم عدّة من دون أي مصوغ قانوني، وهذه المرحلة بدأت بـ"الموريتاني" (2021)، لكيفن ماكدونالد: قصة محمدو ولد صلاحي رحيم (طاهر رحيم)، اعتقلته الحكومة الأميركية ويقبع في معتقل غوانتنامو من دون تهمة أو محاكمة. بعد أن فقد الأمل، وجد حلفاء يدافعون عنه، كالمحامية نانسي هولاندر (جودي فوستر) وشريكتها تيري دنكان (شايلين وودلي)، فيواجهون معاً عقبات في سعي يائس إلى تحقيق العدالة، مع أدلة كشف عنها المدعي العسكري، تكشف في النهاية عن مؤامرة مروعة وبعيدة المدى. يُتوقّع إنتاج أفلام عدّة على هذه الشاكلة، لتبقى إفرازات 11 سبتمبر لا تنتهي، فتتوالد كلّ مرة بصيغ سينمائية مختلفة، لكن ليس بالسردية نفسها التي انطلقت منها، بعد انكشاف حقائق سرية عدّة وتحرّر العالم من الضغط الأميركي.

المساهمون