تيسير البطنيجي... الذاكرة والهوية

31 يوليو 2023
يحمل المعرض عنوان "الشبكات والتحولات" (فيسبوك)
+ الخط -

 

في سلسلته الفوتوغرافية التي أنتجها بين عامي 2005 و2006 تحت عنوان "الآباء" يتحرك الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي خارج إطار الصور النمطية للأحياء والمدن الفلسطينية. تتجاوز الصور هذه المشاهد التي نطالعها عبر الشاشات لأحياء مكتظة بالسكان وتفاصيل يومية لحياة مرهقة من العنف ورشق الحجارة والشوارع المليئة بإطارات محترقة. في هذه الصور يتسلل البطنيجي بخفة داخل المتاجر والمقاهي والمصانع وأماكن العمل الأخرى في قطاع غزة ليلتقط صوراً للجدران المكتظة بالبضائع. هنا تستمر الحياة بلا توقف.

داخل هذه المساحات المُتخمة بالتفاصيل العشوائية يطالعك دائماً وجه داخل إطار. يظهر الوجه المؤطر من خلف منضدة أو مستقراً على أحد الأرفف، أو مختبئاً وسط مزيج من الأشياء المعروضة للبيع. غالباً ما تنتمي الصورة الفوتوغرافية إلى الوالد أو الجد المؤسس، وقد يتسع إطار الأبوة ليشمل صوراً للسياسيين، أو حتى لشخصيات أخرى يحمل لها صاحب المكان قدراً من الامتنان. وجه ريتشل كوري حاضر هنا.

بعيداً عن أي تحليل اجتماعي أو ثقافي لأعمال البطنيجي فإنّ هذه السلسلة وبعض أعماله السابقة تهتم دائماً بتلك المساحة العالقة ما بين الحضور والغياب، كما يقول الفنان. يرى البطنيجي أن تمثيل الغياب والعلاقة التي تم إنشاؤها بين صورة الأب والعناصر الأخرى التي تشكل مجال الصورة المحددة بإطار داخل المشهد ما هي إلا محاولة غير واعية منه، أو من صاحب المكان، لإنشاء رابط بين الماضي والحاضر.

في كثير من أعمال تيسير البطنيجي سنجد هذه المساحة العالقة على نحو ما؛ يمكننا العثور عليها مثلاً في عمله الذي قدمه عام 2014 تحت عنوان "صور الشهداء" وهو عبارة عن مساحة كبيرة على الحائط أشبه بالنصب التذكاري غطاها بـ177 صورة مطبوعة بالأبيض والأسود لفلسطينيين قتلوا على يد الجيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية. بدت الصور في هذا العمل غير واضحة الملامح، غير أن وجودها معاً شكل على نحو ما شعوراً طاغياً بالحضور.

نجوم وفن
التحديثات الحية

هذه المراوحة بين الحضور والغياب سنجدها كذلك في عمله "جدران غزة" الذي قدمه عام 2001، وعرض خلاله مجموعة متنوعة من الصور الفوتوغرافية لجدران غزة المغطاة بطبقات من الملصقات والكتابات والعلامات.

هذه التجربة الملهمة للفنان تيسير البطنيجي تحتفي بها حالياً مؤسسة كاري دي بودوان في باريس حتى 21 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. المعرض الذي يحمل عنوان "الشبكات والتحولات" يضم مجموعة مختارة من نحو خمسة عشر عملاً أنتجها الفنان بين عام 1998 وحتى يومنا هذا. تزخر الأعمال المنتقاة بالعديد من التجارب البارزة في مسيرة البطنيجي ورحلته مع الفن، من دراسته في نابلس وحتى استقراره في باريس لما يزيد عن العقدين.

في هذا المعرض الباريسي تجتمع الرسومات والصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو والتجهيزات لتشكل معاً سرداً متعدد الأبعاد يخاطب عواطف المشاهدين وخيالهم. هي مزيج من التجارب الذاتية والذاكرة واستحضاراً شاعرياً لصورة الوطن البعيد، في تجربة تأملية عميقة ومحفزة للتفكير. في هذا المعرض يدعونا الفنان الفلسطيني للمشاركة في حواره مع هويته وتراثه عبر رحلة بصرية تجمع بين الشخصي والعام. تبرز هذه التجارب المتنوعة قدرة الفنان على التقاط لحظات عابرة من الحياة اليومية وتحويلها إلى انعكاسات مؤثرة حول مواضيع أوسع وأكثر شمولاً. تدعونا هذه الأعمال كذلك إلى التفكير في مكاننا داخل شبكة أوسع من العلاقات التي تشكل التجربة الإنسانية.

معرض تيسير البطنيجي يمثل استكشافاً ملهماً ومحفزاً للتفكير في رحلة الفنان عبر العديد من الذكريات والتجارب والتقاطعات الثقافية، هذه التجارب التي قد تدفعنا إلى التشكيك في تصوراتنا الخاصة للواقع والعالم من حولنا.

ولد تيسير البطنيجي في غزة عام 1966، ودرس الفن في جامعة النجاح في نابلس الواقعة في الضفة الغربية. بعد تخرجه حصل على منحة دراسية من الحكومة الفرنسية، ما سمح له بمواصلة تعليمه الفني في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في بورج من 1995 إلى 1997. منذ ذلك الحين عاش متنقلاً بين فرنسا وفلسطين. تتنوع ذخيرة البطنيجي الفنية، فتشمل التصوير والرسم والتركيب والأداء والفوتوغرافيا والفيديو. يمكن القول إنّ كلّاً من التصوير الفوتوغرافي والفيديو تحديداً كانا وسيطين أساسيين في عمله خلال العقدين الماضيين. عرضت أعماله في باريس وبرلين وبينالي البندقية ونيويورك ولندن والدوحة، وغيرها من العواصم الأخرى، هذا إلى جانب مشاركاته المحلية منذ عام 2002.

المساهمون