اختارت المخرجة التونسية أريج السحيري، في فيلمها الروائي الطويل الأول "تحت شجرة التين" (2022)، الهامش وتفاصيله، ناقلةً عبره أوجاع المرأة التونسية الريفية، ومعاناتها المستمرة في العمل في المزارع والحقول، وتحمّلها الكامل مسؤولية أشغال البيت والأسرة، ليُثقل كاهلها بهذه الأعمال، من دون كلل أو ملل.
انطلاقاً من هذا المُعطى المحوري، تساهم السحيري في كسر المركزية السينمائية التونسية الحديثة، المتمحورة بمجملها في فضاءات المدن والتجمّعات السكنية الكبرى. تنقل مشاكل المرأة، وتركّز على حريتها واستقلاليتها وحقوقها المسلوبة، وهذه منطلقات إنْ قورنت مع مشاكل امرأة الهامش، التي تقيم في الأرياف والضواحي، لظهرت كأنّها ترف زائد، لأنّ مشكلة الأولى تعدّت الجوع والفقر والعوز والاحتياج، ولو نسبياً، بينما الثانية لا تزال تتخبّط في تلك المشاكل.
أحسنت السحيري اختيار موضوعها، والاشتغال عليه بدقّة وتفانٍ، من دون عقد وتفلسف زائد، لاغيةً تلك الخطابية التي تقتل المنطلق السينمائي عادة، ومُعتمدةً على تفاصيل الواقع، وما يجود به. كأنّها أطلقت العنان لشخصياتها النسوية في فضاء التمثيل، من دون تزويدهنّ بالمنطلقات والتوجيهات السينمائية، ليُعبّرن عن أنفسهنّ، انطلاقاً من معاناتهن ومشاكلهن. استخلاص هذا متأتٍّ من الحوارات البسيطة التي جرت على ألسنتهن، لأنّها نابعة من عمق الريف. حتى المشاكل الحاصلة بين الصبايا، انبثقت من تلك الفضاءات، ليكون الفيلم مرآة تعكس معاناة المرأة.
لم تكتفِ أريج السحيري بحوارات الريف ومشاكله، إذ ذهبت بالمناقشات الجارية بين النساء إلى أبعد من ذلك، أي إلى مشاكل الحرية والانفتاح، وإبراز رؤيتهنّ للمستقبل، وكيفية تعاملهنّ مع التكنولوجيا الحديثة، التي أفرزتها مواقع التواصل الاجتماعي. أي إنّها لم تُلبس الصبايا ثياب التشدّد والجهل والمثالية المثقوبة، فكسرت بالتالي النمطية التي سوّقت لها أعمال درامية وسينمائية متراكمة، صوّرت المرأة الريفية على أنّها نقيض الانفتاح.
يروي "تحت شجرة التين"، المشارك في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي، قصة عمّال وعاملات، معظمهم صبايا صغيرات في السنّ، يعملون في جني محاصيل فاكهة التين، في بستان بعيد عن سكناهم، ما يجعلهم يستيقظون باكراً، لينقلهم صاحب البستان، بشاحنته المكشوفة، إلى الحقل. توزّع الصناديق البلاستيكية عليهم لملئها، وقبل غروب الشمس بقليل، يباع ما جُنيَ إلى أحد التجار، ثم يُرجَعون إلى قريتهم.
اختارت السحيري (شاركت في كتابة السيناريو مع بَغِي هامان وغالية لاكروا) يوماً واحداً كوحدة زمنية، نقلت فيها معطيات درامية مهمّة، حصرتها في فضاء مكاني محدّد أيضاً (حقل التين). الأحداث فيه تحصل بصيغ مختلفة، تولّد معظمها من حوارات ثنائية وجماعية، تنكشف عبرها تلك المعاناة، انطلاقاً من تلك الإفرازات. كذلك قدّمت صورة شاملة عن كلّ شخصية رئيسية، عكست أحلامها وكوابيسها، وأفراحها وأحزانها، وطريقة تعاملها مع الأشياء المحيطة بها، وتلك التي تُستنبط من الماضي، البعيد أو القريب.
سناء (أماني الفضيلي) وفيدا (فداء الفضيلي) وملاك (فاتن الفضيلي) ومريم (سمر سيفي) وفراس (فراس عمري)، وأخريات وآخرون، استطاعوا الاندماج مع الكاميرا، رغم قلّة تجاربهم، أو انعدامها أحياناً. حضورهم القوي أعطى دفعاً للفيلم، خصوصاً بعد أنْ تعدّدت القصص والأحداث الآنيّة، تحصل في 92 دقيقة، معظمها عن الحبّ، خصوصاً أن هذا الشعور ملاذ آمن، يشحن قلوب البشر بالأمل، وغير محصور بطبقةٍ من دون أخرى. قصص الحب موجودة بكثرة، وأفرزت انفعالات مختلفة، كالخيانة والغيرة والحسد والحسرة على الماضي، كذلك ساندتها سلوكات أخرى، شحنت الفيلم وأعطته بعداً أوسع، كتحرّش صاحب العمل بالصبايا، حتى القاصرات بينهنّ، مستفيداً من وضعه المادي المريح (السلطة المالية) لابتزازهنّ جنسياً. وأيضاً خيانة الأمانة، كما فعل فراس، الذي يُخفي صناديق تين، لبيعها منفرداً. وعندما عرف صاحب البستان، حرمه أجرة أسبوع كامل.
هذه المظاهر مرآة عاكسة لمشاكل تظهر كأنّها بسيطة، لكنّها قوية ومفصلية لمن تحدث معهم، لأنّها تصنع فرقاً لهم ولحياتهم.
"تحت شجرة التين" فيلمٌ سينمائي ينتصر للجانب الوثائقي أكثر منه للروائي. هذا خيار فني، اعتمدته أريج السحيري ليُلامس المُشاهد، مباشرة، موضوعه، ولإعطاء دفع لمجابهة السينما، التي تعتمد على العناصر الذهنية والفلسفية، وتنسى المشاكل البسيطة للقاع، وأعطت للهامش هيبته، زارعة فيه بذور المقاومة والتصدي.
في الوقت نفسه، أظهرت ما يلمع في هذا الهامش، انطلاقاً من قلوبٍ تقاوم مشاكلها وظروفها بالحبّ، واستطاعت خلق بديل بصري مهمّ (تصوير فريدة مرزوق)، رغم المساحة الضيقة، وتقلّص فضاءات التصوير، معتمدةً على صُوَر متوسّطة وقريبة من الشخصيات، التُقطت من زوايا مختلفة. الرابط الأساسي الجامع بينها أشجار التين، بثمارها المختلفة، وأغصانها المتداخلة، وأوراقها الواسعة، فصنعت بُعداً جمالياً، حرّك حواسّ عدّة في المُشاهد، كالبصر الذي عكسته الخضرة ووجوه الممثلين وزوايا التصوير، والسمع بفضل لهجات الشخصيات، إذْ حاكت فعلياً لهجات أهل الريف. هناك أيضاً حاسّة الذوق، المنعكسة عبر ثمار التين السوداء والعسلية، وطعم الشاي المطهو على الجمر، والأكل الذي يُتناول في الاستراحة. بالإضافة إلى حاسّة الشم. كل هذا بَلوَر صُوراً حسية، خلقت انسجاماً مطلوباً، وربطت عناصر الفيلم بعضها ببعض، فخلقت بها تكاملاً، أفرز الجمالية السينمائية المطلوبة.
رغم أنّه أول انطلاق لأريج السحيري في الأفلام الطويلة، أظهر "تحت شجرة التين" (إنتاج مشترك بين تونس وفرنسا وألمانيا وسويسرا وقطر)، نُضجاً فنياً، وبشّر بولادة مخرجة سينمائية تونسية، ستقدّم أعمالاً مهمّة مستقبلاً.