بين نقدٍ وغياب نقاشٍ: عمّاذا نكتب؟

12 يونيو 2023
جوستين تريّية و"سعفة كان": ألا يحتاج المهرجان إلى تجديد؟ (دانيال فانتُرّلّي/وايرإيماج)
+ الخط -

 

إنّه السؤال الملحّ دائماً: ما المُثير، سينمائياً، للكتابة عنه؟ سيُقال إنّ هناك أفلاماً كثيرة، ومواضيع كثيرة، ومشاغل كثيرة، عربياً ودولياً. هذا صحيح. إمكانية المشاهدة والمتابعة سهلة، فالتقنيات تُتيح مشاهدة ومتابعة أسهل من السابق، إجمالاً. مجلات سينمائية أجنبية تمنح الناقد/الناقدة والصحافي/الصحافية السينمائيين "مادة" مهنية، إعداداً ونقاشاً. مواقع إلكترونية غربية، موثوقٌ بها لحِرفيّتها في الاشتغال المهني، تساعد على اختيار الأنسب، أو الأقدر على إثارة اهتمامٍ، لتنقيبٍ ومتابعة، ثم الكتابة عنه. "النمائم" العربية حجّة لتعليقٍ على مسائل متعلّقة بالمهنة وآليات عملها عربياً، في مقابل سينما عربية يصنعها مخرجون ومخرجات في مدنهم العربية، أو في دول الاغتراب، تحثّ على نقاش وتفكيك وحوار.

هذا كلّه صحيح. لكنّه غير مانعٍ السؤال الملحّ دائماً. الكتابة، رغم ارتكاز جزءٍ أساسي منها على المهنة الصحافية، وهذه المهنة مُتطلّبة، تحتاج إلى مزاجٍ وهدوء وتأمّل وتفكير، وإنْ تكن المواضيع مهمّة، والأفلام محرّضة على سجال نقدي. مزاج الكتابة النقدية جوهري. الهدوء والتأمّل والتفكير أساسيات. متابعة أخبار ومسائل ونمائم تحتاج إلى تقصٍّ للتأكّد من صحّتها، فتقنيات القرن الـ21 كثيرة، وتدفّق "المعلومات" مُرهِق، والـ"كذب" والـ"تزوير" والـ"ترويج" لأي شيءٍ وفيرٌ إلى حدّ غير مُحتَمل.

التعليق على هذا كلّه حاصلٌ، بين فترة وفترة. لكنْ، ما الإضافة المُفيدة في كتابة أخرى عنه؟ خاصة أنّ كثيرين وكثيرات غير مكترثين بنقاش جدّي، فالنقّاد والصحافيون/الصحافيات السينمائيون غير مهتمّين بنقاش كهذا مع زملاء لهم ولهنّ، لأسبابٍ يختلط فيها النرجسي والتعالي على الآخر، بلا مبالاة وعدم قراءة غالباً.

قراءة كتاب "حيث الليل أكثر من غياب الشمس" للعُماني عبد الله حبيب ("الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء" و"الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع" في بغداد، الطبعة الأولى، يناير/كانون الثاني 2023) محرّضة على قولٍ مفاده أنّ في النقد والمهنة السينمائيين العربيين غياباً تامّاً لنقاش نقدي مع زملاء وزميلات المهنة. فإحدى ركائز المقالات/الدراسات المنشورة فيه مبنية على نقاش مع نقّادٍ وكتّابٍ ومفكّرين معنيّين بالسينما، تحليلاً لآراءٍ لهم، واستفادة من تلك الآراء لإضافة سجالية فكرية أيضاً لحبيب، المهووس بالسينما، بعيداً عن كتابة صحافية بحتة.

لهذا علاقة بالسؤال الملحّ دائماً، فجزءٌ من الهمّ السينمائي كامنٌ في محاولة فهم غياب أي نقاش جدّي بين نقّاد وصحافيين وصحافيات عربٍ، والجدّيون/الجدّيات بينهم قليلو العدد أصلاً، في عالمٍ عربي شاسع، جغرافياً وإنتاجاً سينمائياً ومهنة، وحكاياتٍ قابلة لسجال، ربما يراه كثيرون وكثيرات غير نافعٍ وغير مهمّ وغير ضروري أدنى اهتمامٍ نقدي به. هناك غياب للنقاش بين نقّاد وصحافيين وصحافيات سينمائيين عرب، وعددهم قليلٌ أصلاً، وهو مهمّ وضروري، شرط أنْ يبتعد عن الشتيمة، المبطّنة غالباً، والمتحايلة على الكلمات والجمل أحياناً.

حسناً. الأساسي هنا ذاك المزاج الذي، عندما يحضر بثقله، يحول دون كتابة تريد مهنة ونقداً. كتابة تعليق كهذا نابعة من غياب مزاج الكتابة النقدية، لكنّها تستسلم لكتابة تريد نقاشاً، والنقاش غائبٌ. مثلٌ على ذلك: مقالة لي تتساءل: في زمنٍ كالذي نعيش فيه (التقنيات الكثيرة)، ماذا يعني حضور مهرجان سينمائي، وإنْ يكن مستواه "كانّ" وأشباهه؟ ردٌّ من ناقدٍ آخر تختزله جملة واحدة في مقالة عن الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) للمهرجان نفسه: إنّه (مهرجان "كانّ") "الموعد الذي من "المُعيب" التغيّب عنه، لكلّ شخص يعتبر نفسه من عائلة السينما". أهذا نقاش؟ أم شتيمة مبطّنة، رغم وضوحها؟ ما "المُعيب" في عدم حضوره، وحضور أشباهه؟ صراحة، لا أعرف. لا نقاش في تلك الجملة، بل مجرّد نرجسية وتَعَالٍ يحولان دون رؤية أمور كثيرة، يظنّها ناقدٌ أو أكثر أنّها غير مهمّة، أو يُفضّل تحاشيها لتثبيت علاقته بأي مهرجان، يتغاضى عن أخطاء فيه أو خلل.

 

 

مقالتي ("عن ناقد ومهرجان: أي معنى لحضور مباشر؟ أي نشوة؟ أي متعة؟"، "العربي الجديد"، 15 مايو/أيار 2023) غير محرّضة على نقاش، مطلوب وضروري، بل فقط على جملة تشتم ولا تقول شيئاً. والنقاش المرجوّ يتناول المهرجان نفسه، والمهرجانات الأخرى، التي في دوراتها هذه تشيخ في عمرٍ، تحتاج فيه إلى تأهيل جذري، يُفترض به أن يكون جوهر نقاش منبثقٍ من تقنيات العصر وتحوّلاته، خاصة بعد كورونا وتأثيراتها، والوباء وتأثيراته أصلاً يجب أنْ يُحرّضا على نقاشاتٍ وقراءات وحوارات كثيرة، لأنّ الوباء، بحدّ ذاته وبتأثيراته، يصنع تحوّلاً جذرياً في كلّ شيء، انفعالاً وسلوكاً وعيشاً ووعياً ومعرفة وإنتاجاً وتفكيراً وقولاً، أو هكذا يُفترض بنا أنْ نتعامل معه ونُناقش تأثيراته، لأنّه فعلياً صانع تحوّل جذريّ، وإنْ يُخفى (التحوّل) على كثيرين وكثيرات، أو يتجاهلونه.

قولٌ كهذا سيُستقبل، من بعض زملاء/زميلات المهنة، بسخرية أو استخفاف. هذا حاصلٌ مراراً، في شؤون أخرى. هذا يؤكّد غياب نقاش نقدي بينهم وبينهنّ، رغم أنّ مقالاتٍ عدّة، وإنْ تكن قليلة، تتناول مسائل قابلة للنقاش، ومحرّضة عليه، وساعية إليه، لكنْ من دون جدوى.

أمّا المزاج، فحجّة لكتابة كهذه، رغم فعاليّة حضورها في ذاتٍ وروحٍ ونمط عيش، ورغم تحكّمها، أحياناً، بمهنة متطلّبة للغاية، مشاهدة وقراءة ومتابعة، وبحثاً عن أي جديد يُمكنه إثارة رغبة في الكتابة عنه.

المساهمون