بول سورفينو: رحيل المافياوي الذي يعشق فنوناً أخرى

29 يوليو 2022
بول سورفينو: ملامح تنبثق من حِرفية أداء (تشارلي غالاي/Getty)
+ الخط -

 

ملامحه توحي بأنّه مافياوي إيطالي أصيل، وبعض أدواره البارزة في سيرته المهنية تؤكّد براعته في اختبار تجربة تمثيلية كهذه. لكنّ حِرفيته الأدائية واضحةٌ، فاختياره أفلاماً غير مرتبطة بهذا العالم الإجراميّ يعكس تمكّناً، مُثيراً للانتباه والمتابعة، في كيفية تقديمه أدواراً/ شخصيات، بعضها فاعلٌ في الحقل العام، كهنري كيسنجر، في "نيكسون" (1995) لأوليفر ستون.

هذا قليلٌ للغاية في لائحة اشتغالات بول سورفينو (1939 ـ 2022)، رغم أنّ أدواراً/ شخصيات عدّة مُستَلْهمة من تجارب حقيقية، وأفلاماً مبنية على أفرادٍ معروفين، من دون أن يمثّل أحدهم، مكتفياً بشخصية خيالية في فيلمٍ عن أناسٍ حقيقيين، كما في Reds لوارن بيتي (1981)، مؤدّياً دور شيوعي أميركي ذي أصل إيطالي، في فيلمٍ يروي حكاية الأميركي جون ريد (1887 ـ 1920)، الصحافي والكاتب والمناضل الشيوعي (يستند السيناريو إلى مذكّراته)، وقصة حبّه للويز براينت (1885 ـ 1936)، المناضلة السياسية والصحافية الأميركية.

بيتي يتعاون معه لاحقاً في "ديك ترايسي" (1990)، المستلّ من قصّة مُصورّة (كوميكس) بالعنوان نفسه (1931)، لتشستر غولد، ثم في "القواعد لا تُطبَّق" (2016)، ومُشاركته فيه متشابهة مع تمثيله في أفلامٍ مستلّة من قصص/ شخصيات حقيقية، من دون أنْ تكون شخصيته السينمائية حقيقية. وارن بيتي، في هذا الفيلم، يروي حكاية مارلا مابْري، الشابّة الآتية إلى هوليوود عام 1958 لتُصبح ممثّلة، فتلتقي سائق سيارة أجرة يُدعى فرانك فوربس (بيتي)، طموحٌ يريد تحقيق شيءٍ ما في حياته.

غير أنّ بيتي غير مُكتفٍ بقصّة عادية. فهوليوود جاذبةٌ لتشريحها سينمائياً، ومالكةٌ ما يُحرِّض سينمائيين وسينمائيات، وبعضهم عاملٌ فيها، على تفكيك جوانب مختلفة في عالمها واشتغالاتها ومصانعها وناسها. ولعلّ تكرار تأدية سورفينو أدواراً ثانية في أفلامٍ سينمائية وأعمال تلفزيونية، في الفترة السابقة على آخر فيلمٍ له (القواعد لا تُطَبَّق)، دافعٌ إلى حضورٍ عاديّ، نابع ربما من رغبة وارن بيتي في تعاون جديد معه.

مُشاركته في "ديك ترايسي" حاصلةٌ في العام نفسه الذي يشهد حضوره في فيلمٍ، يُشكِّل مفترقاً في السيرتين المهنيتين له ولمخرج "الرفاق الطيّبون (Goodfellas)"، مارتن سكورسيزي. فيه، يلتقي سورفينو بـ"نجوم" يصنعهم سكورسيزي (أو يُساهم في صنعهم) من حِرفيّة عميقة في اشتغالاتهم، ومن حساسيّته السينمائية والثقافية والفكرية، مانحاً إياهم مساحات واسعة لتعبيرٍ عن أداءٍ، يخرج من مهنيّته إلى مدى أوسع في بلورة العلاقة المطلوبة بين الممثل والشخصية. منهم روبرت دي نيرو وجو بيشي وراي ليوتا، الراحل في 26 مايو/ أيار 2022، قبل 7 أشهرٍ من احتفاله بعيد ميلاده الـ68 (18 ديسمبر/ كانون الأول 1954).

 

 

عنف "الرفاق الطيّبون" غير مختلف كثيراً عن ذاك الحاصل في "ديك ترايسي" مثلاً، أو في "نيكسون"، رغم أنّ أوليفر ستون يُمرِّره في مسام شخصية ريتشارد نيكسون (أنتوني هوبكنز)، المضطربة والقلقة والتائهة في أرواح/ أشباح تنقضّ عليه بوحشيةٍ مبطّنة، يؤدّيها هوبكنز بنظراته وانحناءة صغيرة في كتفيه وملامح وجهه ومشيته وحركاته. لن يكون هنري كيسنجر عنيفاً، فالديبلوماسيّ بارعٌ في إظهار برودة أعصابٍ تكاد تكون قاتلة، وبول سورفينو، في تأديته شخصية كيسنجر، يحافظ على معالمها النفسية والجسدية، كما على أسلوبها في النطق والنظرة المليئة بحِيل ودجل، يكشفهما سورفينو بأناقة ممثل بارع.

بين المافيا والسياسة والشرطة، سينمائياً وتلفزيونياً، يختار بول سورفينو، والد الممثلة ميرا سورفينو (1967)، أدواراً غير معنية البتّة بهذه العوالم والشخصيات، كما أنّ له ما يُشغله في حيّزه الخاص، من فنون مختلفة، يرويها لكاميرون ماير ("أورلاندو ويكلي"، 2 إبريل/ نيسان 2014): "غالبية الناس تظنّ أنّي رجل عصابات أو شرطيّاً أو شيئاً من هذا القبيل. لكن، في الواقع، أنا نحّاتٌ ورسّام وكاتب، وأشياء كثيرة أخرى: شاعر ومغنّي أوبرا. لا شيء بينها ينتمي إلى العصابات. لكنْ، كما تعلم، واضحٌ أنّ لديّ موهبة تأدية هذه الأشياء".

لكنْ، طالما أنّ الغالبية الساحقة من عناوين صحافية وإعلامية، تتعلّق بخبر رحيله، تُبرز "الرفاق الطيّبون" من دون غيره من كثرة أفلامه وأعماله التلفزيونية، وآخر إطلالة تلفزيونية له متمثّلة بمشاركته الرائعة في "عرّاب هارلم" (2019، ابتكار كريس بْرانكَتو)، يُمكن استعادة قولٍ له بخصوص علاقته بسكورسيزي وفيلمه هذا، تنقله عنه كارا باكلي ("نيويورك تايمز"، 12 يونيو/ حزيران 2015)، بمناسبة مرور 25 عاماً على إنجازه: "كنتُ سأؤدّي دوراً في فيلم سكورسيزي. لقطة أقول فيها إنّ العشاء سيُقدَّم. لديّ رغبة كبيرة في العمل معه. التقيتُه، ورأيتُ سريعاً أنّه يريدني لهذا الدور. شعرتُ بسعادة غامرة، لكنّي قلقتُ للغاية. قدّمتُ أدواراً كوميدية ودرامية كثيرة. لكنّي لم أقدّم دور رجل قوّي وصعب، حقاً. لم أحصل عليه في داخلي. هذا الجزء يدعو إلى القتل، الذي أشعر أنّه بعيدٌ عنّي. اتصلت بمدير أعمالي قبل 3 أيام على بدء التصوير: "أخرجوني (من هنا)، سأدمِّر صورة هذا الرجل العظيم، وسأدمِّر نفسي أيضاً". أجابني، بهدوء ورصانة وحكمة: "اتصل بي غداً. إذا لزم الأمر، سأخرجك". ثم وقفتُ أمام مرآة جدار القاعة لأضبط ربطة عنقي. لا عزاء لي. نظرتُ إلى المرآة، وقفزتُ (فعلياً) خطوةً واحدة إلى الوراء. رأيتُ نظرةً لم أرَ مثلها سابقاً. هناك شيءٌ ما في عينيّ أزعجني. نظرة قاتلة بلا روح أخافتني، وكانت مُهدِّدَة بشكل كبير. نظرتُ إلى السماء وقلتُ لنفسي: وجدتها".

المساهمون