"بذرة التين المُقدّسة": معالجة متنوّعة لموضوع جريء

16 اغسطس 2024
"بذرة التين المُقدّسة": لا حشو ولا ملل بل مصداقية معاينة (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **إبداع محمد رسولف في "بذرة التين المُقدّسة"**: فيلم درامي إنساني عميق، تم تنفيذه سرّياً بسبب القيود، يتميز بإدارة محترفة للممثلين وتقلبات مثيرة.
- **نقد السلطة الإيرانية وتفاصيل الحبكة**: ينتقد الفيلم السلطة الإيرانية من خلال شخصية ربّ أسرة قمعي، مع تصاعد التوترات المنزلية والاحتجاجات في الشارع.
- **التشابك السياسي والعائلي والذاتي**: يبرز الفيلم مشكلة إيمان، المحقق الذي يصبح قاضياً ويضطر للحكم بالإعدام، مما يؤدي إلى انهيار الأسرة.

 

يُعتبر "بذرة التين المُقدّسة"، أحدث إبداعات الإيراني محمد رسولف، الأوضح والأكثر جرأة وحدّة، وربما الأكثر مباشرة أيضاً. هذا لا يعني أنّه أقلّ فنية وحِرفية ومُتعة من أفلامه السابقة. لكنْ، هناك مُغاير في أسلوب تنفيذ وتصوير وصوغ حبكته وأحداثه. لا شكّ أنّ هذا نتيجة تأثّره بعوامل عدّة، كمنع المخرج من العمل بشكل طبيعي، واضطراره إلى إنجاز فيلمه سرّياً. مع ذلك، ورغم الصعوبات، تجلّت مهارته في إبداعه فيلماً ينتمي إلى الدراما الإنسانية العميقة، المعتادة في السينما الإيرانية، وتوفّره على تقلّبات كثيرة، مثيرة ومحبوكة جيداً، وإدارته المحترفة للممثلين الرائعين، ما زاد من مصداقية الفيلم. ورغم بعض استطراد وإطالة ولقطات مُمعنة في التفاصيل، ليس هناك حشو وشعور بملل، رغم أنّ مدّته من أطول أفلامه.

ينتقد "بذرة التين المُقدّسة"، مواربة، السلطة الإيرانية عموماً، ويُحيل بإسقاطاته الكثيرة إلى أي سلطةٍ قامعة، ومدى الجنون الذي يُؤدّي إليه تماديها في البطش، عبر إدانته النموذج البطريركي، وسلطة الرجل ـ ربّ الأسرة، ابن التربية الذكورية السلطوية، انطلاقاً من تقديمه شخصية ربّ أسرة بَسَط، وأحياناً فرض سلطته، المغلّفة بالحنان والحب والرعاية والأبوّة، على أفراد أسرته. لكنّ تعقّد الأمور يكشف الوجه الحقيقي لها. فبدلاً من التماسك في وجه المِحَن، يظهر النقيض تماماً، إذْ تنحدر أمور الأسرة من سيئ إلى أسوأ، خاصة بعد ازدياد حدّة التوترات في المنزل، وتقاطعها مع الاضطرابات والاحتجاجات والمظاهرات المُتفجّرة في الشارع الإيراني قبل عامين (نهاية 2022).

صحيحٌ أنّ رسولف لم يذكر صراحةً اسم الشابّة التي توفّيت على يدي السلطة، في نشرات الأخبار، وعبر لقطات الاحتجاجات الأرشيفية في الفيلم، والنقاشات العائلية في المنزل. لكنْ، ليس صعباً تخمين أنّها مهسا أميني. بالتالي، يظهر تدريجياً المأزق المُنحدرة إليه العلاقات بين أفراد هذه الأسرة، وصدام الجيل القديم بالجيل الجديد، ما يؤكّد أنّ الأمور ماضيةٌ إلى مواجهة حتمية بينهما، والمصير الدموي بالانتظار، يتبعه مستقبلٌ مظلم، أو لا يُبشّر بالخير، على الأقلّ.

البطاقة التوضيحية، بعد العناوين الافتتاحية، تؤكّد ما سبق، إذْ تُفسِّر معنى العنوان، "بذرة التين المُقدّسة"، الفائز بالجائزة الخاصة للجنة تحكيم مسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، مُبيّنة أنّ التينة المُقدّسة المعنيّة شجرةٌ تنشر بذورها في أغصان الأشجار المجاورة، وتمدّ أغصانها إلى الأرض، بحيث تخنق الحياة ببطء حولها. تقتل الأشجار، التي كانت مُعيلةً لها، فتصبح مُقدّسة.

العنوان كناية واضحة عن الدولة، أو أيّ أجهزة قامعة تنضوي فيها. تفسيرٌ آخر ربما يقصد أنّ الشباب، أو الأجيال الجديدة من المتظاهرين وغيرهم، أصحاب فكر جديد، ينادون بالتغيير والتجديد والحرية. هم سيغرسون جذورهم، وسيرثون هذه الأرض، وما عليها.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

رغم التأويل السياسي البحت لها، لا تخلو الحبكة من تطوّرات درامية صادقة، تكتشف بعمق مستويات نفسية واجتماعية وأخلاقية، لا تقلّ أهمية عن السياسية، من دون الفصل بينها، وإبراز مدى تعقيدها وتشابكها كلّها. تشابكٌ أو تعقيدٌ كهذين ليسا غريبين عن أفلام محمد رسولف (1972). لكنّ الجديد في "بذرة التين المُقدّسة" أنّه، رغم وحدة الموضوع والأحداث والشخصيات والزمان، لا ينطوي على وحدة عامة في أسلوب المعالجة والإخراج، إذْ تتنوّع أساليب السرد والتناول وخطّ الإخراج، مع تطوّر الأحداث وتصاعدها، وتعقّد الصراع، وانتقاله من منطقة إلى أخرى، ومن إيقاع إلى آخر.

من خلال الأحداث، تبرز مشكلة إيمان (ميساخ زارع)، أحد كبار المحقّقين في المحاكم المنعقدة ضد الثوار والنشطاء والمتظاهرين. سيترقّى ليُصبح قاضياً، بعد أكثر من 20 عاماً أمضاها في خدمة النظام والولاء له بكل إخلاص. لكنّ الأمر يتطلّب منه تصديق بعض القضايا، والحكم بالإعدام فيها، ليس فقط ضد قناعته، بل من دون الاطّلاع عليها. تدريجياً، بعد شَدّ وجذب، وصراع ضميرٍ ودين، من ناحية، ورغبة عائلية في الترقّي الاجتماعي، وتلبية احتياجات كثيرة للأسرة المُلحّة، من ناحية أخرى، يُنفّذ الأوامر، وينصاع أيضاً إلى رغبة زوجته نجمة (سهيلة جلستاني) وابنتيه رضوان (مهسا رستمي)، الطالبة الجامعية، وسناء (ستارة مالكي)، تلميذة المدرسة.

بعد ربط السياسي العام (اضطرابات ومظاهرات واعتقالات) بالعائلي (الرغبة في تحقيق حلم المنصب المستَحقّ، والترقي مهنياً ومالياً واجتماعياً)، يُربط ما سبق بالذاتي، إذْ تتعقّد أمور الأسرة بعد رصد النشطاء لإيمان ومسكنه، وتصبح حياته وأسرته في مرمى الخطر. لكنّ الانقلاب المصيري يبرز بعد اختفاء مسدسه الخاص، ما يهدّد حياته المهنية بالفصل الوظيفي والسجن. المعضلة أنّ المسدس سُرِقَ من منزله، ما يضع أهل بيته في دائرة الاتهام. هنا، تبدأ بذور الاضطراب التي غرست على مهل في الإنبات، دافعة إيمان إلى حافة الجنون. فبعد استجواب رسمي لأسرته، غريب وجادّ ومثير، من قِبل محقّق صديق ضالع في انتزاع الاعترافات، يضطرّ إيمان إلى ما يُطلق عليه اختطافه أسرته.

صحيحٌ أنّه يُنصَح بالابتعاد عن مرمى النشطاء، ومغادرة العاصمة مع أسرته طوعاً، إلا أن ما يُقدِم عليه في الثلث الأخير من الفيلم في بيته الريفي، ومشهد النهاية والانهيار الحتمي، يصعب وصفها خلافاً لهذا.

المساهمون