(*) تصويرك لهما (سلمى وعشيقها وهيب، تأدية كارول عبود وربيع الزهر ـ المحرّر) يُؤكّد هذا أيضاً: حالة فرح وبهجة تعيشها هي في طريقها إلى اللقاء، ثم حالة إحباط تعود بها. بعدها، تمارس حالة الإشباع الذاتي.
أعتقدُ أنّ هذا حقّها.
(*) كلامي لا يُدينها. أنا لا أحكم عليها. لكنّ هذا يُكمِل صورة الرجل في الفيلم.
الفيلم يتوجّه إلى الرجال أكثر من توجّهه إلى النساء، لأنّ هناك شيئاً خاطئاً في عقل الرجل. عندنا نظرة خاطئة في ما يخصّ العلاقات. لا يعنينا الشخص الآخر في شيءٍ. لا نهتمّ بمشاعر المرأة وإشباع رغباتها، فالرجل لا يفكّر بها. يصل إلى النشوة، وينسى الآخر.
(*) أعتقد أنّه نوع من عدم الوعي. ربما لو تمّت تنمية الوعي بالآخر، والتفكير في مشاعره، سيختلف الوضع.
ربما. ربما. لكنّ مجتمعنا ذكوري، أي إنّه يجعلنا نقيس الذكورية بمقياس ما يجري فعله في السرير. هذه نظرة خاطئة جداً، وإنْ كان هناك تقدّمٌ وتطوّر في نظرة العالم إلى هذا الأمر. لكنْ، لا يزال موضوع الشرف قائمٌ ومسيطرٌ عندنا. هناك عبءٌ يقع على المرأة، اسمه الأمومة. إذا صار الولد شابّاً صالحاً ناجحاً، يُقال إنّ الأب هو الذي ربّاه. أمّا إذا صار الولد شاباً فاشلاً وغير ناجح، يُقال إنّ أمّه هي التي ربّته.
في "مهرجان القاهرة" (مسابقة "آفاق السينما العربية"، في الدورة الـ44، المُقامة بين 13 و22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ـ المحرّر)، بعد عرضه، قالت امرأة لبنانية في النقاش مع الجمهور: "هذا لا يُعبّر عن الثقافة اللبنانية. هذا ليس لبنان، ولا المرأة اللبنانية. لا توجد امرأة لبنانية تُجهض ابنتها".
(*) النظرة المُقدّسة للأم.
أجل. لا يزال هناك الكثير من تقديس الأمومة، بينما الأب يعيش حياته حرّاً ومتحرّراً من هذا التقديس. يفعل ما يحلو له. لا بُدّ من إعادة النظر في أشياء كثيرة في مجتمعنا.
أتذكّر أيضاً التعليقات المنتَقِدة للقطة المسدس، فالبعض انزعج من تصويب الأمّ المسدس على وجه الابنة.
(*) شعرتُ أنّها لقطة طبيعية.
فعلاً. جعلتُها تلقائية، وتركتُ الباب مفتوحاً. نظرة التقديس تقول أيضاً إنّه يجب على الأم ألا توجّه المسدس إلى ابنتها.
(*) في النصف الثاني من الفيلم، عندما قرّرتَ إنهاء هذه العلاقة، نُلاحظ اختفاء الماكياج عن وجه سلمى. كأنّها تواجه الحقيقة من دون تجميل. كذلك تختفي لقطات الاستمتاع بشرب القهوة. هل لم يعد هناك شيء تستطيع هذه المرأة أنْ تساعد به نفسها؟ أمْ لأنّ دور الأمومة أصبح المُسيطر، خاصة مع عودة الابنة؟
هناك شيءٌ أساسي حصل في السيارة. هل تتذكّرين سؤالها إياه: "إلى أين تأخذني هذه المرة؟".
(*) عندما قال لها: "لا نريد فضيحة".
بالضبط. شعرتْ أنّها تريد الستر، الآن. هل تريد هذا، حقيقة؟ هذا جعلها تُعيد التفكير، وتتّخذ قرارها، سواء عادت الابنة أم لا. أحببتُ هذا، وهذا شيءٌ صغير، كلمة أو جملة. لكنّ المرأة تقول له لاحقاً: "اذهبْ إلى الجحيم". كما نلاحظ أنّها تذهب في الربيع، وتعود في الشتاء.
(*) أيضاً تصويرها في رحلة الذهاب، وهي في حالة رومانسية وفرح. كأنّها تمتزج بالطبيعة، أو تتماهى معها، ثم تعود وهي مُحْبَطة. كأنّها طفلة تنظر من المقعد الخلفي للسيارة إلى ما تركته خلفها.
هذه أشياء صغيرة، أستند إليها ككاتب ومخرج، عندما أقدِّم صورة أقلّ قدراً من الحوار. كان يُمكن للفيلم أنْ يعتمد كلّياً على الحوار، فنفهم القصة. لكنْ، بالطريقة التي اخترتُها، سيكون هناك بُعدٌ ثانٍ وثالث ورابع، لأنّي لم أُخبر القصة بهذه المُباشرة.
(*) في النصف الأول من الفيلم، كانت الكاميرا دائماً خارج غرفة الأم. كأنّه ليس مسموحاً لنا، كمُشاهدين، أنْ نخترق خصوصيتها، أو أنْ ندخل إلى عالمها. لكنّ مجيء الابنة كسر هذه الخصوصية. هل بالغْتُ في التحليل؟
صحيحٌ جداً ما تقولينه. لكنْ، هناك سبب آخر. لأنّي شاب لا امرأة، لا أعرف بالضبط ما شعور المرأة. لذلك، أخرجتُ الكاميرا لأكون في موقع المتفرّج. صحيحٌ أنّ هناك أشياء في الفيلم حنونة ومتعاطفة ومتفهّمة. مع ذلك، هناك أشياء لا أعرفها. هذا احترام وصدق، حتّى لا أدّعي بعض الأشياء، بينما اقتربْتُ في مشهد الإجهاض.
(*) لماذا، عندما تخرج الكاميرا تدريجياً من الغرفة التي تجمع سلمى وثريا (الابنة، تمثيل أمية ملاعب ـ المحرّر) معاً، تختفي الابنة أولاً، وتظلّ الأمّ مسيطرة على اللقطة، رغم ابتعاد الكاميرا؟
كنتُ أريد أنْ أختم هذا الجزء، لأنتقل إلى جزء آخر، وأقول إنّ هذه المرأة، التي شوهدت في الجزء الأول، بعد وصول الابنة، ستظهر بشكل آخر في الجزء المقبل.
(*) هل اختيرت الأغاني في السيناريو، أمْ في المونتاج؟
كنتُ أعرف، منذ البداية، أنّ أغنية فيروز ستكون في الافتتاح، وأغنية أم كلثوم أيضاً. وضعتهما في السكريبت. لكنّ أغنية محمد عبد الوهاب لم تكن محسومة في الكتابة. قرّرتُ أنّ الأغاني والموسيقى تأتي دائماً من مصدر درامي ما. لستُ ضدّ الموسيقى التصويرية، التي استخدمتها في حالتين. لكنّي لا أميل إليها كثيراً، رغم أنّها تدفع بالصورة وتُقوّيها، وتُحرّك المشاعر. لكنّ السؤالَ إخراجيٌّ: هل أريد أنْ أعمل هذا، أم لا؟
الآن، 70 أو 80 بالمائة من المسلسلات تعتمد على الموسيقى. لن أقول إنّ هذا خطأ أو صَحّ، لأنّ هذا يُفَعِّل الدراما والضحك والعاطفة والصورة. مثلاً: في الجزء الثاني، قرّرت قَطع الموسيقى، لأني أريد هذه الحالة النفسية، وهذا الجوّ القاتم، لأنّ في الجزء الأول حالة سعادة وبهجة، إلى حدّ ما. هنا، صار التحدّي: ماذا لدي؟ وكيف يمكنني استخدام أصوات من دون تضخيم وافتعال؟
(*) متى قرّرت إدخال أغنية عبد الوهاب، "كان أجمل يوم"؟
نشأتُ على صوتي عبد الوهاب وأم كلثوم. عندنا في المنزل، لا يفضّلون الاستماع إلى فيروز. أمي كانت تخبرني بأنّه، كلّ خميس في آخر الشهر، تستمع إلى أغاني أم كلثوم "لايف" عبر الراديو. تأثّرت بحكايات أمي. نشأتُ في محيطٍ موسيقيّ. أهلي قادمون من اليسار. كلّ الوقت نستمع إلى الموسيقى المصرية، أكثر من اللبنانية. هذا موجود في اللاوعي. لذا، في المونتاج، أحببتُ توظيف كيف تظهر، وكيف تتطوّر مع المشهد، وكيف تنتهي مع نهاية هذا المنظر.
كذلك، كنتُ أرغب في أنْ أحاكي مشهداً لعبد الحليم وشادية، "الدلوعة". رغبتُ في محاكاة بصرية لهما، إذْ كانا شابين يركضان ويلعبان خلف الأشجار ويغنّيان. قلتُ لنفسي إنّ هذه المرأة، التي تجاوز عمرها 50 عاماً، لماذا لا نتركها تلعب وتحبّ وتشعر بأنّها "دلوعة"؟ ماذا سيحدث لو نتركها لتُحِبّ؟
(*) كيف كانت جلسات العمل على شريط الصوت؟
تحية للدكتور بيريز، مُصمّم شريط الصوت، الذي جَمَّع الأصوات كلّها. البداية أصعب. تعرّف على تفكيري، وتعرّفتُ على أسلوبه. مع الوقت، حصل انسجامٌ وتوافق، وأدرك بالضبط ما أريد وأحتاج إليه من أصوات. لا أنسى شيئاً مهمّاً: موقع التصوير في الجبل. أنا ابن الجبل. أسمع الطبيعة وأنصت إليها. كنتُ أريد أنْ أسمع صوت الشجر، وهمس أوراق الحشيش، وكيف تنزل المياه. كنتُ أدقّق في هذه التفاصيل، وأسجّل الأصوات، وأحاول أنْ أستخرج منها ما أريد بطريقة درامية، بحيث أشعر بأنّي مرتاح للنتيجة النهائية.
(*) الصوت أساسيّ. عموماً، لبنان أكثر دولة عربية تقدّماً بالنسبة إلى شريط الصوت السينمائي في الأعوام الأخيرة، في الأفلام الوثائقية والروائية. كيف تُفسِّر هذا؟
يمكن صنع العجائب بفضل الصوت. هناك أكثر من استديو جيد. لدينا استديوهات جيدة تهتمّ بالصوت. شباب وشابات كثيرون لديهم شغفٌ بالصوت، وباتوا متخصّصين فيه بشكل رائع. الدليل أنّ معظم صانعي الأفلام العربية يختارون لبنان لتصميم شريط الصوت. في لبنان، جوّ سينمائي جميل جداً. هناك نماذج لديها اهتمام كبير بالصوت، ومؤكّد أنّها أثّرت في ذلك.
(*) رغم نجاح فيلمك نقدياً، ونيله جوائز عدّة، انقسم الجمهور بخصوصه.
صحيح. أحدهم قال لي إنّه خرج من الصالة عند مشهد البركة. امرأة لبنانية قالت إنّي أقدّم صورة خاطئة عن لبنان، فأجبتها: أنا لست وزير خارجية، ولا أسعى إلى تبييض صورة لبنان. ينقسم الناس حول الفيلم. في السينما، ليس الهدف جعل الناس يحبون الفيلم. من أساسيات عمل الفنانين انتقاد مجتمعاتهم، والإشارة إلى الخطأ فيه. لا أريد أنْ أطبطب على الجمهور، ولا أنْ أكتب ما يريده المنتجون الأجانب، الذين يريدون تصوير المرأة الضعيفة. فيلمي مرفوض بالنسبة إلى هؤلاء.
أتمنّى فهم ماذا تعني السينما. أعرف أنّ اقتصاد السينما يعتمد كثيراً على الغرب. لكنْ، علينا ألا نلهث وراءهم، أو نخضع لهم. عليهم أنْ يفهمونا، كما نحاول فهمهم. علينا ألا نسمح لهم بأنْ يتعاملوا معنا بهذه الفوقية، لأنّهم يدفعون الأموال. نحن لدينا أشياء مهمّة يمكننا سردها. علينا العمل على أفكار تهمّنا وتشغلنا، بعيداً عن الرجل الأبيض، الذي يريد تصوير شيءٍ معين.
(*) هل حاولوا التدخّل في المعالجة؟
كلّما قدّمت مشروعي للحصول على دعم أو منتج، كنتُ أُسْأل: لماذا المرأة عندك قوية في "بركة العروس"؟ لا بُدّ للمرأة أنْ تكون ضعيفة. أحكي عن استقبالهم الأول للنصّ. المرأة الشرقية القوية لا تغوي المنتج الأبيض. لم يحدث هذا فقط مع منتج واحد. لكنْ، كلّما قدّمت السيناريو إلى منتج أبيض، أو أي منطقة في العالم الغربي، يكون التعليق: "لا بُدّ للمرأة عندك أنْ تكون ضعيفة". أرى أنّ أمي لم تكن أبداً ضعيفة. المرأة عندنا في القرية لم تكن أبداً ضعيفة. لكنْ، هناك صُور نمطية، يريد الغرب ترسيخها وتكريسها.
(*) ماذا عن مشروعك المقبل؟
أريد إكمال الجزء الثاني من "بركة العروس". إكمال المشوار مع الابنة. لا رغبة لي في أنْ أكون مع الرجال.