ليس الحادي والعشرون من الشهر الحالي، أول أيام فصل الصيف فحسب، بل هو يوم للموسيقى أيضًا، يحتفل فيه أكثر من 120 بلداً حول العالم، منذ أن أقيم للمرة الأولى في فرنسا عام 1982، وخلاله يشارك الموسيقيون ألحانهم ومعداتهم ووقتهم مع الآخرين في الأماكن العامة والمتنزهات، أو في مساحات بديلة وهبها ملاكها للاحتفال بعيد الموسيقى، إضافة إلى حفلات وعروض تُنظم على مدار اليوم الأطول في العام، من دون أي عائد ربحي في غالب الأحيان.
تجاوز عدد العروض الموسيقية الحية والمنقولة عبر الإنترنت الـ1000 عرض في المملكة المتحدة وحدها، خلال الاحتفال السنوي الفائت، ما يجعل يوم "عيد الموسيقى" (Fête de la Musique) هو أكبر حركة موسيقية شعبية في العالم اليوم، وهي تضاهي في حجمها وتأثيرها مهرجان وودستوك الشهير، وإن تجاوزها الأخير في تأثيره البالغ على الصناعات الموسيقية وأنماطها أيضًا.
تقاوم الاحتفالات من هذا النوع في شتى أنحاء العالم عادات وطقوس التلقي المعاصرة، التي تكرس نمط "التفاعل بدلًا من الحضور"، وتضع المهرجانات الموسيقية الجماعية تحت خطر الانقراض، خصوصاً مع تقليص العروض والأداءات الحية بعد تفشي جائحة كورونا، وانتشار خدمات ومنصات البث عبر الإنترنت.
أيًا كانت المناسبة، لا يتمرغ رواد الاحتفالات وموسيقيوها في الطين هذه المرة، بل يتابع غالبهم أحداثًا موسيقية عن بعد، سواء عبر أجهزة هواتفهم، أو حتى على خشبات تستحضر نجومهم المفضلين من الماضي، وفق تقنية الهولوغرام التي أعادت إلى المسرح نجومًا كثيرين خلال السنوات الماضية، منهم مايكل جاكسون وتوباك شاكور وألفيس بريسلي وويتني هيوستن. أما عربيًا، فرأينا أم كلثوم تعتلي الخشبات في المملكة العربية السعودية ودار الأوبرا المصرية في عام 2020، تلاها ظهور عبد الحليم حافظ وداليدا التي رافقتها في الغناء والوقوف على الخشبة المغنية اللبنانية إليسا.
لم يخطر على بال أحد في مرحلة سابقة، أنه يمكن للعندليب أن يغني من جديد، كما كان من المستحيل حضور الأداء الأول لفرقة كوين مرة أخرى، أو رؤية أول حفل ظهرت فيه أم كلثوم مباشرة. تلك أشياء باتت جميعها ممكنة في الألفية الثالثة التي تعدنا بالمزيد خلال القريب العاجل أيضًا.
"قريبًا، لن يكون هنالك حد لما ومن يمكننا رؤيته من الأحياء أو الموتى"، يقول جينارو كاستالدو، من شركة الصناعة الفونوغرافية البريطانية، التي تضم عضويتها المئات من شركات التسجيل الموسيقي. يتشارك جينارو حماسته الرائدة مع الغالبية العظمى من صناع الموسيقى ومنتجيها ومستهلكيها. إلا أن عدوى الحماسة التي انتشرت في شتى أنحاء العالم ترقبًا وانتظارًا لما قد تحمله تلك التجربة الفريدة من نوعها، لا يبدو أنها انتقلت إلى العالم العربي بالشدة ذاتها؛ إذ ظل كثيرون يرون في استخدام الهولوغرام لتجسيد الفنانين الراحلين استغلالًا تجاريًا معيبًا وانتهاكًا للموروث الثقافي والفني للفنانين الراحلين، وتلاعبًا بالهوية والذاكرة الخاصة بأعمالهم، في حين رحب جزء واسع من الجمهور العربي بتلك التقنية، ورأوا فيها فرصة لإحياء إرث الموسيقيين الراحلين والاستمتاع بأعمالهم، فضلًا عن كونها وسيلة لجذب جمهور جديد وإتاحة الفرصة أمام الأجيال الأصغر سنًا للاستمتاع بالأعمال الكلاسيكية التي لطالما تحدث عنها آباؤهم وأجدادهم بابتسامة دافئة وعيون مسافرة مع الأفق.
من الجدير بالذكر أن فكرة التجسيد ثلاثي الأبعاد كانت قد تحدرت من طقوس فنية قبل أن تجد أي آثار لها في المجالات العلمية التي تخدمها التقنيات الهولوغرافية بالدرجة الأولى، إذ تطورت "الصور المجسمة" التي تسمح للفنانين الغائبين بالأداء على خشبة المسرح بعد رحيلهم من حيلة مسرحية شاع استخدامها من قبل المسرحي جون هنري بيبر في ستينيات القرن التاسع عشر، وهو ما يفسر تسميتها شبح بيبر (Pepper’s Ghost). استخدمت التقنية لوحًا زجاجيًا عاكسًا يميل بزاوية محددة إلى حجرة سفلية أسفل المسرح. بفضل الانعكاس، تتولد صورة الممثلين المختبئين في الحجرة أمام الجماهير وعلى المسرح مباشرة.
سواء أحبه الجميع أم لا، يتوقع كثيرون أن يغدو الهولوغرام مستقبل الأداء، خاصة أنه بات واحدًا من أشهر التقنيات استخدامًا في مجال المؤثرات البصرية والصناعات الموسيقية، إلى جانب كل من الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والمُعزز وCGI، وغيرها من التقنيات التكنولوجية التي ساهمت إلى حد كبير في تطوير تجربة الموسيقى والفنون عمومًا، كما أنها باتت أحيانًا هدفًا في حد ذاتها وليس في من تمثله من خلفها؛ في حلقة ساخرة من مسلسل "ساوث بارك" الكرتوني، يعترف مدير إحدى الشركات الهولوغرافية بأنه يقتل أناسًا لكي يعيد إحياءهم عبر التقنية. يشير ذلك المشهد إلى الأرباح الهائلة الصادرة عن عروض مجسمات الهولوغرام، إذ تجاوز سعر التذكرة الواحدة لحفل هولوغرام عبد الحليم حافظ 5000 جنيه مصري. فكرة لم ترق حتى لعائلة حافظ ذاتها، والتي يبدو أنها لم تُدع إلى جلسات المناقشات في الكواليس.
المثير في الهولوغرام هو حجم التضارب الفكري الذي يخلقه الشبح المجسد بين المجتمعين الغربي والعربي، فيرى الأول فيه تشبثًا مزعجًا بالأساطير العابرة، وأنه لا يدع الماضي يمر بسلام، في حين يمتعض الثاني من مساسه بالماضي الغابر ذاته عبر تجسيد رموزه وإعادة إحيائها. ينبع كلا الاعتراضين، إذن، من إشكالية مع لحظة ما من الزمن العابر، على الرغم من أنهما يشتركان في شعور المعاداة الضمني لما يحمله الفن الجديد من أفكار وشخصيات معاصرة.
يرتبط الرفض الذي قد نجده في بعض المجتمعات العربية لفكرة الهولوغرام بسلسلة من الأفكار والممارسات التي عبر عنها بعضهم في مناسبات عدة دون مواربة، جوهرها التمسك بالإرث العربي، وتحديدًا الموسيقى العربية القادمة من أيام "الزمن الجميل"، كما شاعت تسميته. تلعب العوامل الدينية دورًا مهمًا في إرساء وتقبل الظواهر الجديدة، ما قد يجعل بعض الأشخاص من خلفيات اجتماعية ودينية محددة رافضين لفكرة التجسيد بما هي إعادة لخلق الكائن الحي، أو حتى إزعاجًا لروح الميت، لكن تعصب بعضهم إزاء موسيقاهم الأصيلة لا يتوقف عند رفض تجسيد رموزها عبر صورة ثلاثية الأبعاد فحسب، بل في استنكار صناعة الأغلفة الجديدة التي يستلهمها أصحابها من أغان قديمة، سواء عبر إدخال التنويعات أو إعادة التوزيع، أو الإشارة البصرية أو السمعية. لا يحب جمهور الشيخ إمام سماع موسيقاه وكلماته تؤدى من قبل فنانين عرب تجريبيين، كذلك يمتعض جمهور أم كلثوم الوفي عند التصرف بألحانها أو سماع إحدى عبارات أغنياتها الشعرية على هيئة لازمة متكررة برفقة موسيقى إلكترونية في أحد البارات، ناهيك عن رؤيتها نفسها وهي تلوح بمنديلها على خشبة دار الأوبرا المصرية، وربما بالألوان أيضًا، خلافًا لما اعتاد عليه محبوها سابقًا. ومن الأكيد أن جمهور الفنانة الراحلة صباح كان له من الاعتراضات ما هو كاف عند إعادة توزيع وغناء أغنيتها الأشهر "يانا يانا" مع المغنية اللبنانية رولا سعد منذ سنوات عدة، فضلًا عن ظهورها في البرامج الحوارية التلفزيونية وانخراطها بشكل ملحوظ بالثقافة السائدة وسريعة الاستهلاك.
يمكن تفسير تمسك بعضهم بموروثهم الثقافي الموسيقي على أنه شكل من أشكال التفاخر الثقافي (Cultural pride)، إلا أن ذلك التشبث يحمل في طياته خطر الانزلاق إلى التعصب أو التمييز بناءً على الفخر الثقافي. يرفض حملة لواء الموسيقى القديمة الاستماع أو التعرف إلى أي نوع آخر من الموسيقى، متحصنين بشعور شديد بالانتماء الحصري لنوع واحد من الموسيقى ومستبعدين أشكالها الأخرى بشكل حاد وعنيف في بعض الأحيان، فكثيرًا ما لاقت الأنماط الموسيقية التي تنتشر في المجتمع العربي حديثًا صعوبات في إقناع الجمهور، مثل الراب أو الموسيقى الإلكترونية، إذ يعتبرها بعضهم تهديدًا للموسيقى التقليدية، وينظرون إليها بوصفها مخالفة للقيم والمبادئ الثقافية العربية.
يلعب اختلاف عادات الاستماع إلى الموسيقى بين اللحظتين الزمنيتين المتباعدتين دورًا مهمًا في تلك القضية أيضًا. كان الاستماع إلى واحدة من مقطوعات أم كلثوم يعد طقسًا في حد ذاته، يقارب الفعل، ما يفسر امتداده على زمن طويل. وهو ما يختلف تمامًا عن عادات الاستماع المعاصرة التي تروج للموسيقى بوصفها نشاطًا يسير بالتوازي مع حدث آخر أكثر أهمية، كقيادة السيارة أو الطبخ أو الدراسة. دفاع بعضهم عن الموسيقى كما عرفوها، هو دفاع عن الطقس المرتبط بها أيضًا، والذي يتميز بكونه مادة "مضادة للزمن"، لا تشيخ ولا تذبل، ومن المؤكد أنها غير قابلة لإعادة التدوير أيضًا. لا يحبذ المتعصبون للموسيقى كما كانت استعادة الرموز الفنية في الوقت الحاضر. في رغبتهم تلك رفض لإقحام نجومهم في اللحظة المعاصرة وسعيًا لحماية ذاكرتهم الصورية من العبث أيضًا. نتعلق بصور الطفولة وصور الثروباك للأسباب ذاتها، ففيها نبحث عن الثبات والجماد، عن اللحظة كما نتخيلها، مجمدة في الأبدية، تحيا هناك كما نحبها؛ أدوات تساعدنا على إلقاء نظرة رومانسية على الماضي والعيش في الفجوات الزمنية التي لا يمكن ملؤها أبدًا.
يكشف انتماء بعضهم إلى حقبة زمنية مغايرة من الناحية الثقافية والفنية والأيديولوجية، كثيرًا عن اللحظة الحالية، فتمسك شريحة كبيرة من المجتمعات العربية بالموروث العربي الموسيقي ليس إلا تعبيرًا عن ازدراء خفي من واقع الموسيقى المعاصرة اليوم وما تفرزه من نتائج فنية غير مرضية.
هكذا، يزداد الشعور بالتعصب كلما ازداد الشعور بالخطر والتهديد، فينتهي الأمر إلى انغلاق أكثر على الذات وعجز في الارتقاء بما حققته التجربة العربية الموسيقية إلى مستويات أعلى.
صحيح أن المراهنات عالية، إلا أن المجتمع العربي يشهد تطورات واسعة على الصعيد الموسيقي بشكل عام، ويتفاعل مع الموسيقى الغربية والعالمية أكثر من أي وقت مضى عبر التاريخ. توجد فرق موسيقية عربية تدمج بين العناصر التقليدية والحديثة، فضلًا عن انتشار أنماط موسيقية مختلفة في العالم العربي، مثل البوب والروك والهيب هوب والموسيقى الإلكترونية، وغيرها من الأنواع الموسيقية التي دخلت إلى قلب التأليف الموسيقي العربي ونتجت عنها أنماط هجينة. مع ذلك، ما زالت الدعوات لحماية الموروث الموسيقي من الأخطار المحدقة كثيرة في يومنا هذا، تبتغي عزل الموسيقى ومن يسمعها في فقاعة وهمية، حيث لا يمكن لأحد المساس بها بعد اليوم.