"الميدان الغربي": جماليات غير محدودة تفضح فظاعات الحروب

11 نوفمبر 2022
"الميدان الغربي": اكتشافٌ متأخّر لجحيم الحروب (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

استمدّ الفيلم الألماني "كلّ شيء هادئ في الميدان الغربي" (2022)، لإدوارد بُرغُر، جماليته من التفاصيل الصغيرة، التي يغفل عنها الآخرون. جزئيات تكون، عادة، بلا معنى. لكنْ، عند توظيفها بشكل إبداعي، تُشكّل فنّيتها وفتنتها، كحصى الفسيفساء تماماً. تصنع فنّيتها حين تكتمل عملية تركيبها، وهذا مُعطى أساسي، ارتكز عليه هذا الفيلم المختلف، المُقتبس من رواية مهمّة بالعنوان نفسه (1929)، للكاتب المناهض للنازية إريك ماريا رِماركِ (1898 ـ 1970).

من روائع الأدبين الألماني والعالمي، اقتُبِست سينمائياً في أفلامٍ عدّة، في العقود الماضية، آخرها نسخة بُرغُر، التي اختارتها ألمانيا للمشاركة في التصفيات الأولى لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (2023).

انعكس منطلق الاختلاف الجمالي والموضوعاتي في "كلّ شيءٍ هادئ في الميدان الغربي" على مستويات عدّة، ما شكّل تميّزه واختلافه الجذريين مع الأفلام الحربية الأخرى، التي تمجّد المعارك والبطولات والدول، وتجعل الجندي شخصاً ذا خاصيات خارقة، لا يهاب المخاطر والصعاب، بهدف صنع أيديولوجيا معينة، وفي الوقت نفسه جعل المُتلقّي يعتاد نمطَ مُشاهدة يخدم الجهة المُنتجة، بالإضافة إلى الجانب السياسي، وشبّاك التذاكر.

صَوّر الفيلمُ الانكسارَ والخسارة والخوف والخذلان، مُقدّماً حقيقة ما يُمكن أنْ يحدث في المعارك والحروب والمواجهات الكبرى. في تلك اللحظة فقط يُمكن للواقع نقل معطيات صحيحة، وتسجيل الشعور الحقيقي الذي ينتاب الجندي، عند مواجهته الموت مباشرة، ذاك الذي يحاصره في كلّ حركة ونَفَس. في تلك اللحظة الفارقة، يمكن معرفة أشياء كثيرة وكُنهها، ومعرفة الخسارة الحقيقية الموجعة. وفي المقابل، وبعيداً عن المعارك، يلتقي سياسيون وضباط على مائدة مستديرة، أو في غرفة قائد، تحيط به ملذّات الحياة. فمفهوم الخسارة يختلف، ولون الدم لن يكون باللون نفسه في الميدان. حتّى طعم الخبز اليابس يختلف، أو يُصبح بطعم الخبز الطازج، لأنّ الجوع وحده يملك الطعم، لانطلاقه من معادلة "كيف أبقى على قيد الحياة".

ينسى هؤلاء تلك الشعارات الكبيرة التي خبروها في المدارس والجامعات والكليات الحربية، ويصبح الموقف الوحيد، الذي يمكن التعامل معه، المواجهة والبقاء على قيد الحياة. أحياناً كثيرة، يتحوّل الجندي إلى آلة مواجهة تُنفّذ الأوامر فقط، ولا يهمّه شيءٌ بعد أنْ تعطّلت كلّ حواسه.

يبدأ الفيلم بلقطات ثابتة لمناظر طبيعية مختلفة، عن غابات ممتدة، وتضاريس مُتعرّجة، مع سحاب وضوء يميلان إلى ساعة الشفق، بالإضافة إلى منظر أشجار عالية، مُصوّرة من نقطة سفلية، تُشكّل دائرة علوية، تعكس صورة السماء انطلاقاً من الأرض. كلّ هذا في هدوء تام. كأنّ إدوارد بُرغُر عَكَس العنوان بطريقة عبثية في مُقدمة فيلمه. لكنْ، يتبدّد هذا المنظر سريعاً، بعد إنزال الكاميرا من الأعلى إلى الأسفل، حيث يتناثر الرصاص في كلّ جهة، مع جثث مُلقاة، شكّلت، بتصوير علويّ وألوان منتشرة فيه، لوحة تشكيلية عبثية.

بعد تقديم صورة بانورامية عن الموت والفَقَد والقتل ومناظر الخراب (تصوير جيمس فريند)، يُمرّر بُرغُر مشهداً يعكس معالجته وتميّزه، بالتركيز على عملية جمع القتلى من الميدان، حيث تُنزع بدلاتهم العسكرية وأحذيتهم قبل دفنهم، لإرسالها لاحقاً إلى المصانع، وغسلها من الدماء والوحل والدموع، وترقيعها إنْ كانت ممزّقة. بعدها، تُنزع القطعة التي يُدوّن عليها اسم الجندي، ويجري توزيعها على المجنّدين الجدد، الذين لا يملكون خبرة في الحياة، سوى ما تبثّه فيهم أبواق الدعاية، والذين يُشحنون بالوطنية الزائدة، والشعارات الجوفاء، كما وعدوهم في مرحلة التجنيد باقتراب موعد احتلال باريس، والتجوّل في شوارعها، وعليهم الذهاب والاحتفال بهذا النصر.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

المشكلة أنّ المجنّدين الجدد يؤمنون فعلاً بهذه الدعايات، فيتحمّسون لها بشدّة، حتّى أنّ أحدهم، عندما استلم بدلته العسكرية، وجد أنها مدوّن عليها اسم الجندي هانريش، المُصوّر في بداية الفيلم، في معركة طاحنة قُتِل فيها. عندما قرأ الاسم، أخبر من قدّم له البدلة العسكرية بأنّها تخصّ شخصاً آخر، فأجابه المعنيّ بأن هناك من ردّها بحكم صغرها أو كبرها، ثم نزع اسم هانريش عنها، وأعاد تقديمها له، ليتمّ بعدها إرسال الطلبة المتحمسين إلى الجبهة. هناك، عرفوا معنى أنْ يكونوا في المعارك، بعيداً عن الخطب العصماء التي شحنوهم بها، قبل إرسالهم إليها.

شكّلت البدلة العسكرية منعرجاً حاسماً، أظهر عبثية الفيلم وتوجّهه العام، خاصة بعد أنْ ارتداها المجنّد الجديد باول برومر (فِليكس كامَرار) الذي كان يتّقد حماسة وشوقاً للحرب، لكنّه عندما وجد نفسه في متونها، عرف أنّها الجحيم في أحد أشكاله. استعمل المخرجُ، وقبله الروائي، المجنّد برومر، لنقل أحاسيس كثيرة تُظهر شرور الحرب ومآسيها، وصوّر جزءاً من دماء ودموع الحرب العالمية الأولى، من خلال المواجهة بين ألمانيا، التي كانت لها مشاريع توسعية، وفرنسا، التي كانت تدافع عن نفسها، وتمّ التوقيع على معاهدة استسلام الجيش الألماني في عربة قطار بطريقة مذلّة، واتُّفِق على وقف الحرب 11 صباحاً، أي بعد ساعات من توقيع المعاهدة.

لكنْ، في تلك اللحظات، حدثت أشياء كثيرة: موت صديق برومر برصاصة صبيّ فرنسيّ، بعد أنْ حاول سرقة إوزة من بيته، أي أنّه لم يمت في المواجهات التي خاضها، بل على يديّ صبي صغير. حتّى باول برومر، الذي أصبح شاباً صلباً، تمّت التضحية به في ربع الساعة الأخير من المواجهة، بعد أنْ أعطى قائده العام إشارة استرجاع بعض السهول، قبل بدء وقف إطلاق النار بربع ساعة، لتنعكس العبثية بموته في الثواني الأخيرة. هكذا، لم يشهد فترة ما بعد الحرب، وعملية السلام، لأنّها كانت مرحلة حاسمة له ولأصدقائه الذين ماتوا في الميدان. كانت له صورة مثالية عن الحرب، لكنّها تغيّرت عندما عاشها، وحلّ محلّها العبث في أكمل صوره.

"كلّ شيء هادئ في الميدان الغربي" من أهم الأفلام السينمائية الحربية المُنتجة في الأعوام الأخيرة (شاركت "نتفليكس" في إنتاجه)، مُظهراً الصورة الحقيقية للحرب بعيداً عن الزيف. ورغم طول مدّته (148 دقيقة)، حافظ إدوارد بُرغُر على المستوى الجمالي وتوازن السيناريو، وتغلّب على الرتابة التي تخلقها الأفلام الطويلة، وقدّم دروساً عدّة عن الحرب وإفرازاتها. كأنّ الفيلم جاء في توقيتٍ مناسب، ليُنبّه العالم إلى تلك الفترات المظلمة. كما حافظ على مستويات جمالية أخرى صنعت هذه اللوحة السينمائية، في التصوير والموسيقى والصوت، إضافة إلى الممثلين، ومعظمهم شباب، الذين عاشوا أدوارهم بحماسة، والتحموا بشكل كبير مع الرواية وأحداثها المختلفة: فِليكس كامَرار وآلبرتش شوخ وآرون هيلمر، وآخرين.

المساهمون