المولد في اليمن: إنّه نشيد آخر

04 نوفمبر 2020
تستلهم بعض الأناشيد أغاني المقاومة اللبنانية (محمد حويس/ فرانس برس)
+ الخط -

اقتصر إحياء ذكرى المولد النبوي بالمدائح والأناشيد، لفترة طويلة، على مجالس خاصة في اليمن. تغير الأمر مع صعود جماعة الحوثي. فالاستعداد له يستمر عدة أسابيع في صنعاء، تتخذ فيه وجهاً أخضر، وأناشيد وزوامل تصدح عبر مُكبرات في بعض الأماكن، وربما تجوب بها سيارات. أضفت الجماعة المُسيطرة على صنعاء طابعها على الاحتفال الذي تُزينه بالحشود والشعارات المتماهية مع دورها السياسي والأيديولوجي، لكنها من جانب آخر أعادت إنتاج تراث الإنشاد الديني بطريقتها الخاصة.

طالما كان الاحتفال بالمولد النبوي المناسبة الأبرز لغناء التواشيح والمدائح الدينية، حد أن أي اجتماع فيه إنشاد وأذكار يُسمى، في كثير من المناطق اليمنية، مولداً. وتعود أعراف الموالد إلى المجالس الصوفية، التي داومت وحافظت عليها، ليتكوّن حولها موروث من الأناشيد. وحرص المتصوفة في مجالسهم على الإنشاد وأداء التواشيح والأذكار، وتلك الممارسات الغرض منها تصريف الوقت، من وجهة نظرهم، من دون إلهاء عن ذكر الله والنبي. لكنهم في ذكرى المولد، يسترسلون طوال الليل في طقس حافل بالأناشيد والابتهالات، وتتخذ في العادة صيغة المجاوبة بين المؤدي والجماعة. 

انتقل طابع الإنشاد الصوفي إلى دوائر واسعة في المناطق السنية، غير أن مزيته ارتبطت بأجواء المتصوفة، مع حضور الجماليات الإيقاعية، وربما ظهور المجاذيب، بما له من دلالات تجعل من الروحاني مبالغة في الانتشاء. على أن الطابع الاحتفالي في المناطق الزيدية، يمتاز بأسلوبه الخاص في النشيد والاحتفال، بحيث لم يسمح لأي مجال في الطرق الصوفية. وعندما استعار أناشيد صوفية، طوعها ضمن أسلوبه الخاص.

انحصر الاحتفال بالمولد النبوي في التلفزيون عبر مساحة أوسع من إذاعة التواشيح الدينية المُرتبطة بهذه المناسبة، بينما احتفظت بعض الجماعات بتلك التقاليد. يستعيد اليوم الحوثيون الاحتفال بذكرى المولد النبوي على طريقتهم الخاصة، فيضفون عليه رمزية سياسية في تحشيد الجماهير، وما تتضمنه الفعالية من خطاب. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالمولد النبوي مناسبة لإنتاج أناشيد وأوبريتات دينية مصورة في صيغة الفيديو كليب.

في هذا السياق، يتم توظيف موروث الإنشاد الديني في اليمن، في صنعاء وتهامة وتعز، أي بطابعه الصنعاني والصوفي. غير أن هذا النشيد يتم تضمينه ملامح جديدة ضمن تصور الجماعة، بتوظيف مضامين شعرية متسقة مع الألحان القديمة. ومن الممكن مزج هذا النشيد بصيغ لحنية جديدة ذات أسلوب محلي، أو أضفاء عليها مزيج من الأشكال المحلية القبلية، وإيقاعاتها. ولا يقتصر الأمر على الأشكال المحلية، فهناك صيغة الأناشيد المتقاطعة مع نشيد المقاومة الخاص بحزب الله اللبناني.
ومع قدوم ذكرى جديدة للمولد النبوي، تظهر أوبريتات، ربما تكون مزيجاً من ألحان تقليدية وجديدة، أو تكون ألحاناً جديدة يتم نسبها لفرق مثل فرقة "أنصار الله"، أو لمنشدين معروفين مثل عبد العظيم عز الدين، وآخرين. غير أن هناك محاولة لاستيعاب أشكال جديدة وتضمين اللحن عناصر جديدة. 

يتخذ أوبريت "مديح النور" المصور بصيغة الفيديو كليب، والصادر مؤخراً بالتزامن مع المناسبة لهذا العام، التقليد الشائع في هذا النوع من الأوبريت، باستهلال من الصلاة على النبي بحسب الأسلوب الشائع في صنعاء. ثم يستهل إيقاع البرع (الإيقاع القبلي المعروف)، وموكب لمسيرة تمضي في زقاق قديمة، يقودها عازفون على طبلين كبيرين. تتوقف ليظهر عازف ترومبيت مصري في ساحة قديمة. وتوحي المعزوفة المُرسلة على مقام البيات، طابع الألحان الشعبية المصرية، التي توظف الترومبيت المضاف له أرباع التون.

تستأنف الإيقاعات الشعبية، لكن لتدخل على لون شعبي يُعرف بالرزفة، وهو لون تشترك فيه مدن يمنية عديدة، ويمتد إلى مناطق عديدة في الجزيرة العربية. 

يتسم هذا اللون الموقع بالأداء السريع، وفيه تتجاوب الجماعة مع المؤدي بنفس اللحن. لكنه لا ينتسب لأي شكل من الغناء الديني في اليمن، ويبدو أن غرض إدخاله الإيحاء بالعيد، فالجميع يرتدي ملابس تقليدية جديدة. والرزفة، بحسب ما وصفها الشاعر اليمني عبدالله البردوني، هي "ما يردده الجموع في الأعياد وفي أيام الاصطياف، وتتشكل من أصوات. الصوت الأول يبوح بالعشق، ويشير إلى علو سكن المحبوبة كرمز لارتفاع طبقتها. بينما الأصوات الأخرى تبوح بالإقناع والتيئيس من استحالة تحقيق هذا الأمل". إلا أن الغرض من توظيف هذا اللون ليعطي دلالة مغايرة كما يبدو، بالإبقاء على علو المطلب، واستبعاد التيئيس بحسب ما تسرده الكلمات. 

عادة ما يكون الأوبريت مجموعة من الألحان المختلفة؛ سواء كانت من التراث أو جديدة. يتم توظيف كورال الأطفال في أغنية "يا محمد" التي لحنها المنشد عبد العظيم عز الدين. وهو واحد من أكثر الأناشيد الحديثة نجاحاً. ومع أنه حافظ على طابع الإنشاد الصنعاني، لكنه يضفي عليه بعض العناصر اللحنية المُتأثرة بالغناء العربي، عبر استخدام مقام الكُرد بطابعه الغنائي والشجي بالعاطفة. ويتكئ على الأسلوب الشائع المُرتبط بالمجاوبة بين الكورال والمؤدي، وكان جيداً توظيف كورال من الأطفال، لكن تناوب الأطفال في أداء فردي لم يكن منضبطاً في بعض المقاطع.

أوبريت آخر تقدمه فرقة الصماد التهامية، وهو مزيج من ألحان مختلفة من الموروث التهامي مع ألحان جديدة. وهي بالتأكيد تنتسب لملامح إنشادية صوفية انتشرت في ساحل تهامة. يتضمن العمل الجديد لحناً جديداً، ويتخذ صيغة الموال مع استخدام الثيمة الشائعة في تهامة، "وونه وااونه"، وهي تلتقي مع ثيمات عربية للتعبير عن الألم. وعلى مقام الحجاز، يحاول إدانة قصف طائرات التحالف بقيادة السعودية ويدعو بالنصر لليمنيين. هناك مزيج في اللحن بين عناصر محلية وأخرى عربية. 

يبدو أن النشيد الديني يمثّل أحد الملامح التي تؤكد فيه جماعة الحوثي حضورها على الصعيد العام، وفي الجانب الآخر يمارس هذا النشيد بعداً يلتقي مع جبهة عربية لها حضور في لبنان والعراق. يتسم النمط الفني بالطابع الحماسي في صيغه المُتقاربة مع أناشيد حزب الله، وبالاعتماد على توزيع موسيقي للبناني علي موسوي، الذي يُعتبر أحد الأصوات الموسيقية في مُنتج حزب الله الإنشادي.

ففي أوبريت "الأسوة الحسنة"، المُرتبط بذكرى المولد النبوي السابقة، ومن أداء فرقة "أنصار الله"، اعتمد التسجيل على استديوهات لبنانية كما يبدو. فالطابع الإنشادي المُتسم ببعد انفعالي مُحدد واضح أقل غنائية. وتوزيع موسيقي يستهل ببيانو كهربائي، لتتصاعد الجملة اللحنية بإيحاء أوركسترالي. بينما الأداء الغنائي يتسم بالحدة، مع بعض التوتر في بعض الأشطار. ويزداد الطابع الحماسي في آخر مقطع متسقاً مع ما يبشر به من نصر، وهناك توظيف لمسارات اللحن نفسه من درجات مختلفة.  

بصورة ما، يحاول هذا النشيد وراثة أغنية المقاومة التي برزت في لبنان، خصوصاً بصبغتها اليسارية التي مثلها مارسيل خليفة، لكن مع تقليم كل بعد تطريبي أو إيقاعي راقص، أو حتى غنائيته. مع تحميل هذا النشيد مضامين دينية، كصورة لاضمحلال اليسار، أو استعادة جذور الماضي. 

في صنعاء، تحتشد الجذور في ذكرى المولد النبوي، مشهد إحيائي يستعيد فيه النشيد الديني دوراً حيوياً. ويكون التراث قابلاً للتوظيف والدمج مع عناصر محلية أو عربية، أي أنه مجال حيوي يبني عليه الحوثيون حضورهم الشعبي. وكل ما هو مُتاح من التكنولوجيا، يصبح مجالاً للاستخدام من أجل القديم. لكن الصورة العامة لا توحي بأن هناك إضافة فنية لهذا النشيد، إلا في حدود ضيقة، وربما تشهد تطورات مع الوقت، أو مجرد إضافات من هنا وهناك. إنه نشيد آخر، فالزامل نشيد الحرب، وهذا نشيد العقيدة، والصورة تتضح عند كل ذكرى للمولد النبوي.

المساهمون