الموسيقى الأوكرانية... منشدو المقاومة ليسوا عمياناً بعد الآن

22 ابريل 2022
شهدت صناعة الموسيقى توجهاً إحيائياً للعناصر التقليدية (ديميترو سمولينكو/Getty)
+ الخط -

خاضت أوكرانيا، معظم تاريخها، مرهونةً لجشع الإمبراطوريات، فيما موسيقاها كانت مثل سحابة الانعتاق والحرية. ليس هذا من قبيل المجازات الشعرية، فالموسيقى التقليدية الأوكرانية لها جذور عميقة في تاريخ المقاومة ضد روسيا. بدأ الأمر بنقلها من الإرث الشفهي إلى حقل اهتمام مُركب، ثم واكبت عصر المأساة الوطنية في العهد الستاليني. ومع استقلال أوكرانيا عام 1990، تحرّرت الموسيقى التقليدية لتُعلن عن إحياء المشاعر القومية، وأصبحت مادة إثنوغرافية للدراسات، وكذلك لصناعة الموسيقى الحديثة في أوكرانيا.

تعود جذور الاهتمام بالموسيقى الشعبية الأوكرانية، إلى الموسيقي ميكولا ليسينكو (Mykola Lysenko). عاصر ليسينكو الموسيقيين القوميين الروس. لكن وجهته تركزت على التعبير عن روح الموسيقى الأوكرانية، فسادت جميع أعماله الكلاسيكية بطابع سهل ومُنبسط. تُعد أوبرا "تاراس بُلبا" (Taras Bulba) من أهم أعماله، وما زالت النموذج الأبرز للأوبرا الكلاسيكية الأوكرانية.
يمكن اعتبار ظاهرة ليسينكو أكثر اتساعاً عن تيار الموسيقيين القوميين الرومانتيكيين. فلم يقتصر اهتمامه على الموسيقى الفولكلورية كمصدر إلهام لحني فقط، إنما نقلها إلى موضوع إثنوغرافي على المستوى التأليفي، وكذلك البحثي.

وإضافة إلى معالجته ونشره 500 أغنية شعبية أوكرانية، لحن 120 أغنية مبنية على شعر المُنشدين المعروفين بـ "كوبزار" (Kobzar)، كما أنه أول من نشر دراسات وأبحاث إثنوغرافية تناولت الموسيقى الشعبية الأوكرانية وآلاتها التقليدية، وتحديداً منذ 1873.

بعد ذلك، أخذت الموسيقى الشعبية الأوكرانية تزدهر بظهور الفرق الشعبية الكورالية. كانت كل فرقة تختص بتقديم أغاني الريف الذي تنتمي له. وفي قرية أوخماتينسكي، أسس ميكولا ديموتسكي أول جوقة ريفية في عام 1899، وسُميت جوقة أوخماتينسكي الشعبية (Okhmatynsky Village Folk Choir). وكانت تُقدم الأغاني الشعبية لريفها بشكل كورالي، وعلى غرارها ظهرت لاحقاً جوقات ريفية أُخرى.

جرفت المشاعر القومية أوروبا خلال القرن التاسع عشر. وكانت الموسيقى إحدى تجلياتها التعبيرية. ولم يكن لدى الأوكرانيين الخاضعين لحكم القياصرة سوى الإفصاح المراوغ عن مشاعرهم الوطنية عبر الموسيقى. لكنّ، حتى بهذه المواربة، تعرّض الموسيقيون إلى القمع الستاليني.

كانت روسيا القيصرية أكثر تسامحاً من روسيا السوفييتية، في هذا الجانب على الأقل. ومنذ عهد ستالين، خضعت الموسيقى والفنون إلى إعادة تقييم، وبالتالي إلى إصلاح بروليتاري. تُعد أغاني منشدي "كوبزار" مصدراً للفخر القومي الأوكراني، واقتصر أداؤها على منشدين عُميان يغنوها بمصاحبة آلة باندورا، وهي آلة وترية من عائلة العود، تُحتضن بشكل جانبي إلى الأعلى.

وفي عهد ستالين، دعت السُلطات السوفييتية، عام 1932، جميع مُنشدي "كوبزار" إلى مدينة خاركيف، بذريعة حضور مؤتمر موسيقي، إلا أنه كان "مؤتمراً" لإعدامهم. إنها نفس المدينة التي تشهد اليوم واحداً من أكثر فصول الحرب وحشية نتيجة الغزو الروسي.

بعد مذبحة المُنشدين التقليديين، اختفى الأسلوب التقليدي لغناء "كوبزار"، واستبدله النظام بأسلوب أكثر تنميقاً. ووفق تسجيلات تعود إلى سبعينيات القرن الفائت، يمكن ملاحظة بعض السمات الاحتفالية المصحوبة بالأوكورديون، رغم أن باندورا ظلت مُحتفظة بحضورها المُصاحب لهذا النوع.
خلافاً لذلك، تمتاز ألحان "كوبزار" التقليدية بوجه أكثر سوداوية وحُزناً. ما يميز السُلم الموسيقي في أوكرانيا محافظته على طابعه، فما زالت بعض السلالم اليونانية تُستخدم، مثل "السُلم الدورياني"، كما أنه في بعض الألحان يُلاحظ تعديل على الدرجات النغمية برفع الدرجة الثالثة والسابعة، ما يضفي على اللحن حدة في التوتر والحزن.

دمغت المأساة القومية نفسها على الموسيقى، وكما تُعد الباندورا الآلة التقليدية الأبرز، فإنها تُعرف اليوم بـ "صوت أوكرانيا". الأرجح أن السبب يتعدى ذلك إلى عنصر مُهم في الاستقلال عن الروس، ظلت تُمثله الموسيقى. وبعد الاستقلال، ظهرت حمية التنقيب عن الألحان الأصلية للـ "كوبزار" التي فتش عنها الشباب من ذاكرة الجدات في الأرياف. مع هذا، ضاع تقليد فريد وقديم؛ وهو المُنشدون العُميان الذين توارثوا غناءه، بعد المذبحة الستالينية.

لم يقتصر القمع على غناء الـ "كوبزار"، بل انسحب على الغناء الكورالي المُستعمل في الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية. وهو إجراء شمل كل الجمهوريات، بما فيها روسيا، ضمن توجه النظام المُعادي للدين. خلافاً لذلك، تسامح النظام مع الكورال التقليدي للغناء الريفي، بكونه أقرب للتعبير البروليتاري.

في القرن العشرين، اتخذت الدراسات الإثنوغرافية طابعاً أكاديمياً، لكن الحُكام السوفييت استهجنوه. وهو ما كان وراء حظر دراسة تطرقت للآلات الشعبية الأوكرانية من منظور وطني عام 1934.
في أوكرانيا، أصبح حقل الدراسات الإثنوغرافية بمثابة التعبير المُتفجر عن الحرية. فبعد تجاوز الانهيار الاقتصادي للتسعينيات، شهدت صناعة الموسيقى توجهاً إحيائياً للعناصر والآلات التقليدية، ودُمجت أصواتها بأساليب حديثة، مثل التكنو والهيب هوب.

أصبح الأمر بمثابة ظاهرة جذرية في الموسيقى والثقافة، وكذلك في السياسة، بل إن هذا التوجه أخذ منحى أكثر توهّجاً بالإعلان عن نفسه في استكمال الفرار من القبضة الروسية. يمكن تفسير الأمر موسيقياً، لكن أوكرانيا كانت بالنسبة لروسيا الجزء الذي لا يجب أن تُغفل عينها عنه.

في مطلع القرن العشرين، ولد واحد من أهم الأصوات الموسيقية السوفييتية، سيرغي بروكوفييف (Sergei Prokofiev)، في الجزء الشرقي من أوكرانيا. لكنه اتبع أسلوباً موسيقياً عالمياً، يتسق مع كلاسيكية القرن العشرين. خلافاً لذلك، ظهر في إستونيا الموسيقي أرفو بارت (Arvo Part) الذي عارض النظام السوفييتي بأسلوبه الموسيقي، فمن استعمال السلالم اللامقامية، إلى إحياء طراز الموسيقى الكنسية في القرون الوسطى، وبصورة أخص أسلوب "آرز نوفا" الذي ظهر في فرنسا خلال القرن الرابع عشر.

لم تكن إستونيا وبلدان البلطيق مركزية مثل أوكرانيا، لذا استطاع بارت إثارة استهجان موسكو لبعض الوقت، قبل الفرار إلى أوروبا. وفي غفلة مُباغتة، أيضاً، استطاعت إستونيا وجارتاها على بحر البلطيق الفرار مُبكراً إلى "حلف شمال الأطلسي" (ناتو). ظل الروس ينظرون إلى الغرب الأوكراني باعتباره جموحاً مُلتبساً غير قابل للسيطرة. وفي الوقت نفسه، مسألة غير قابلة للإهمال.

لكن التقاليد الموسيقية الأوكرانية، تحاول التخفيف من تلك الوطأة، فالمشهد الإحيائي للجذور الموسيقية يتسق مع التحولات السياسية. ومع اندلاع الاحتجاجات الأوكرانية في 2004، فازت المغنية وعالمة الموسيقى الإثنوغرافية الأوكرانية روسلانا (Ruslana) بمسابقة الأغنية الدولية يوروفيجن (Eurovision)، عن عملها "رقصات برية".

غنت روسلانا عملها على المنصة العالمية باللغتين الأوكرانية والإنكليزية. وكانت الأغاني مزيجاً من البوب مع أصوات نقرات قرون خشبية، تُعرف بالتريمبيتاس (Trembitas)، وهو تقليد موسيقي معروف لدى سكان الهوتسول في جبال الكاربات، غرب أوكرانيا. كما أنها معروفة في جبال الألب.

وكما لو أن هذا التوظيف الموسيقي المُشترك، الذي يمتد من غرب أوكرانيا إلى غرب أوروبا، بمثابة إعادة تعريف لأوكرانيا سياسياً وجغرافياً وثقافياً كجزء من الاتحاد الأوروبي. لكن الأغنية، بأسلوبها الموسيقي، تعبر عن نسق ما بعد حداثي تتجاور فيه عناصر متناقضة ومتباعدة.

كان المشهد الإحيائي يتوازى مع تصاعد الرغبة بالانعتاق الكامل الذي أفضى للثورة البرتقالية عام 2014. واستعانت الموسيقى الأوكرانية الحديثة ببعد أركيولوجي؛ إذ استعادت عناصر تعود للحقبة المسيحية القروسطية، وأخرى تعود للفترة الوثنية، تشاركها أصوات الإلكتروميوزك، والراب.

دخلت أغنية Shum الأوكرانية قائمة الترشيحات للفوز بجائزة يوروفيجن الدولية عام 2021. وظفت الأغنية أساليب الغناء المعروف في منطقة تشيرنوبل شرق أوكرانيا، وهو نوع من الأغاني العرقية تُعرف باسم Avtentyka، ارتبطت بطقوس الربيع في الفترة الوثنية، إذ تُقدم فتاة كقربان عند بداية الربيع.

دُمج اللون التقليدي بإيقاع التكنو. كان ذلك تذكيراً بكارثة تشيرنوبيل، إثر تسرب 5% من إشعاعات المفاعل النووي هناك عام 1986، متسبباً في تدمير 160 قرية أوكرانية، وضياع كثير من أغاني Avtentyka. يمكن النظر إلى الأغنية كعلامات تذكيرية للتحريض على الفرار من القبضة الروسية.
فالموضوع الطقوسي وقربان الربيع، وأيضاً الترميز للحقبة الوثنية هي مجرد مصادفات يمكن النظر إليها بأثر رجعي. لكن هناك ما يدعو إلى القول إن المأساة الأوكرانية تأتي أحياناً بطقوس تكرارية.

ونتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، يمكن أن يتعرض جزء كبير من التراث الموسيقي الأوكراني للدمار. ويسعى مختصون أكاديميون أميركيون إلى حماية الذاكرة الموسيقية الأوكرانية من الدمار في مناطق الحرب، عبر دعم متخصصي الموسيقى العرقية الأوكرانيين في تحميل الأرشيف الموسيقي التقليدي. وفي الوقت نفسه، تحظى كييف بدعم أميركي وغربي ضد روسيا.

لكن الجميع يدرك أيضاً ما تمثله الموسيقى هناك كصوت عميق للمقاومة؛ ما جعل الأوكرانيين يتمسكون أكثر بجذور موسيقاهم، نتيجة شعورهم بقلق نحو حريتهم التي تجسّدت في الموسيقى. بهذا، يبدو التوق إلى العصرنة بمزيج من الموسيقى العرقية، أشبه بتعويذة خلاص تبحث عنها قومية مغدورة.

المساهمون