اللاجئون في صورهم: المأساة بمعاييرها الجمالية

10 مارس 2022
طفلة أوكرانية لاجئة في بولندا (بياتا زورزل/ Getty)
+ الخط -

يتابع العالم اليوم حرباً جديدة تدفع بمئات الآلاف خارج أوكرانيا هرباً من الموت. "انظروا إلى هؤلاء اللاجئين، إلى لباسهم وأشكالهم وألوانهم، إنهم ليسوا كباقي الحشود الهاربة من حروب الشرق الأوسط". تعليقات من هذا القبيل، صدرت على لسان مذيع قناة "الجزيرة" الإنكليزية بيتر دوبي (Peter Dobbie)، ومراسل شبكة "سي بي إس" شارل دي آغاتا (Charlie D’Agata)، وغيرهما الكثير في وسائل الإعلام "الغربية". تعليقات تتضمن نوعاً من المقارنة غير الأخلاقية التي بدت تستهجن وقوع كارثة لعرق ما، في حين تعتبرها طبيعية عندما تلحق بأعراق وشعوب أخرى، ولا سيما شعوب "الشرق الأوسط" و"دول العالم الثالث".

نتساءل: لماذا لا تكون المعاناة صادمة، إلا عندما تلحق بالعيون الزرقاء والشعر الأشقر؟ وإذا كانت المعاناة "طبيعية" في الدول الفقيرة؛ فمتى تكون معاناة شعوب هذه الدول صادمة؟

الطريقة التي تناول بها الإعلام قضايا اللاجئين كانت موضوعاً لعدد من الدراسات التي حلّلت أثر الصور في تشكيل وجهات النظر عن اللاجئين. في مايو/ أيار 2021، نشر بحث في مجلة "نيتشر"، عنوانه: "عندما تكون العدسة بزاوية واسعة للغاية: العواقب السياسية للصور التي تنزع الصفة الإنسانية عن اللاجئين". وجد فريق البحث الذي يقوده روبن تي. أزيفيدو (Ruben T. Azevedo) أن الصور التي يظهر فيها اللاجئون حشوداً وأفواجاً تثير في المتلقي الشعور بالتهديد، فيُنظر إلى اللاجئين باعتبارهم "أزمة"، أو مشكلة ستجتاح بلاده، على العكس من الصور الشخصية التي تبين الملامح أو القصص الإنسانية لهؤلاء اللاجئين.

إضافة إلى إطار الصور وعناصرها، هناك انتشار كبير وسريع لها على منصات التواصل الاجتماعي، لتصبح معها "إثارة الصدمة" أمراً صعباً، خصوصاً إذا ما أراد صانع المحتوى الحفاظ على قدر من المعايير الأخلاقية، وأقلها حفظ كرامة وخصوصية الأفراد.

رأينا كثيراً من الصحف تتخلى عن هذه المعايير، لغرض "إثارة الصدمة" عام 2015، عندما نشرت صورة الطفل إيلان الكردي على شاطئ قبالة سواحل بودروم التركية. وكتب الصحافي أمول راغان، في صحيفة "إندبندنت" البريطانية، مقالة عنوانها "رسالة من محرري الصحيفة: إذا صدمتكم صورة إيلان الكردي فهذا يعني أننا قمنا بعملنا". بُرر نشر الصورة بغرض تغيير الواقع وحث صانعي القرار على التحرك لفعل ما يلزم، من أجل وضع حد لمأساة اللاجئين وحمايتهم. وفي تقدير أزيفيدو وزملائه، فقد غيّرت صورة إيلان نظرة الأوروبيين إلى اللاجئين، بعد أن أثارت ردود أفعال دولية وتعاطفاً كبيراً، ورافقت ذلك زيادة ملحوظة في حجم التبرعات لصالح مؤسسات اللاجئين.

(كريس هوبكنز/ Getty)

معظم صور الحروب التي تنجح في تحقيق "الصدمة" المطلوبة للتعاطف مع المشردين، أو لـ "تغيير واقعهم" هي صور الأطفال في أقسى وأبشع الظروف، مثل صورة إيلان التي ستظل أيقونة لمأساة اللاجئين. لكن، ما الذي تغيره هذه الصور في الواقع، عدا عن كونها مادة للأعمال الفنية، وربما مزيد من الدراسات؟

هناك العديد من الصور الأيقونية الصادمة لأطفال وقعوا ضحية الحروب والمجاعة والعنصرية وقوانين الهجرة، صور من "الشرق الأوسط" و"دول العالم الثالث". منها صورة "فتاة النابالم" التي التقطها أحد مصوري وكالة "أسوشييتد برس" (نيك أوت) عام 1972، من دون أن يلحظ حينها أن من بين الأطفال المرعوبين الهاربين من قنابل النابالم طفلة عارية بدا أن جلدها يذوب بفعل القنابل الحارقة. هذه الصورة الشهيرة توصف أحياناً بأنها "أنهت حرب فيتنام"، لما حظيت به من شهرة وما أثارته من سخط وتغيير في الرأي العام الأميركي حول الحرب.

(جيفروي فان دير هاسيلت/ فرانس برس)

في اليمن والصومال، ليست أي صورة للمجاعة صادمة، إلا عندما تكون صورة تتجاوز ما نتخيل أنه "طبيعي"، ومعتاد في "دول العالم الثالث"، كبورتريه للطفلة اليمنية أمل حسين (سبعة أعوام)، إذ نرى هيكلها العظمي ولا شيء يغطيه سوى جلدها، أو كصورة "الطفلة والنسر" لكيفين كارتر التي التقطها في الصومال.

المثير للسخرية أن معظم الصور الأيقونية للأطفال الضحايا هي صور منتقاة حسب معايير "جمالية"، تصدم المتلقي، لكن ضمن حدود، فلا أشلاء ولا دماء ولا ثياب ممزقة. مثلاً، في صورة إيلان الكردي، نراه في وضعية طفل قد يكون ميتاً أو نائماً. في الصورة رعب وألم يمكننا أن نمعن النظر فيه. هذه الصور كلها منتقاة لتنقل لنا فظائع الحرب من خلال براءة الأطفال. من بين آلاف الصور للأطفال الضحايا، يصدف أن توجد بعض الصور المؤلمة إلى حد كاف يجعلها خارجة عن "المعتاد" وصادمة بدرجة كافية لا تتجاوز كثيراً المعايير الجمالية.

الحضور الدائم لمواقع التواصل الاجتماعي في كل مكان يجعل الأمر أكثر تعقيداً؛ فمع أننا ندرك أنه من غير الأخلاقي أن نعتبر معاناة شعب ما أمراً طبيعياً، قد تجعلنا مواقع التواصل نعتاد صور أفواج اللاجئين، إن كانوا من سورية أو من أفغانستان، فتزداد الحاجة إلى المصور المحترف القادر على اختيار إطار جديد ومختلف.

يجدر بنا الوقوف هنا عند صورة طفلة معمل القطن (Cotton Mill Girl) التي تعود إلى عام 1908، وتظهر فيها الطفلة سايدي فايفر (Sadie Pfeifer) غير واضحة الهوية. الصورة تعد من أشهر صور لويس هاين (Lewis Hine).. حتى أنها توصف أحياناً بالصورة التي "أنهت عمالة الأطفال في الولايات المتحدة".

عمل هاين مدرّساً قبل ترك وظيفته والانضمام إلى جمعية أميركية غير ربحية تشكلت عام 1904، وهدفت إلى القضاء على عمالة الأطفال. أراد هاين نقل قصص الأطفال ضحايا رأس المال من خلال الصور؛ فانطلق في عمل استقصائي، وزار المصانع والمناجم والمزارع، وغيرها من أماكن العمل، متخفياً لتصوير الأطفال وتوثيق الانتهاكات ضدهم. من بين عشرات الصور التي التقطها، كانت هناك صور لأطفال فقدوا أطرافهم في حوادث العمل.

(يونيفرسال إيمدجز/ Getty)

لكن صورة طفلة معمل القطن هي الصورة التي يحتفى بها أكثر من غيرها، لما فيها من تعبير قوي عن قسوة العمل الذي لا ينتهي. نقل المصور هذا التعبير باختياره المتعمد للإطار، ففي الصورة نرى الآلة التي لا تكترث لبراءة الأطفال ممتدة لا بداية لها ولا نهاية، وأمامها تقف طفلة صغيرة بالكاد يتجاوز طولها نصف طول الآلة. هذه الصورة لا تتحقق قيمتها من دون إدراك المتلقي، فلا ملامح شخصية ولا دموع ولا بكاء ولا ألم جسدياً مباشراً وصريحاً فيها.

بطبيعة الحال الوضع مختلف في الحروب، يمكن دائماً تبرير ضرورة نشر صور مروعة للضحايا على حساب خصوصيتهم وكرامتهم، في سبيل توجيه صفعة تصدم العالم، لكن وإلى جانب الصفعة لم يعد بالإمكان تجاهل ما لكل هذه الصور من أثر في تطبيع معاناة أطفال الشرق الأوسط على الأقل في الإعلام.

المساهمون