"القصّة الخامسة" لأحمد عبد: تصوير جماليّات الأمكنة يقترب من دواخل الناس

25 يناير 2021
"القصّة الخامسة": تداخل الحساسيات مع العام (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

 

يتجاوز "القصّة الخامسة" (2020)، لأحمد عبد (1994)، كسلاً سينمائياً عراقياً، أخّرَ ظهورَ وثائقيات تقارب المتغيّرات السياسية والتاريخية الهائلة، التي يمرّ بها البلد، ولازمته موضوعياً تعقيدات اجتماعية واقتصادية وتمزّقات نفسية، كلّ واحدة منها تكفي لتحفيز السينمائيّ على ابتكار مقاربات سينمائية مهمّة. التراجيديا العراقية الدائمة، وفق سوية المنطق، ينبغي لها تحفيز السينمائيّ على العمل، لا الانكفاء بداعي التروي والتأمّل الهادئ للمشهد المُعقّد، مع أهمية هذا كلّه.

شدّة "الانفجارات" التي عصفت بالعراق، أقلّه في العقود الأربعة الأخيرة (حروبٌ واحتلال وصراعات دموية مسلّحة، وانقسامات طائفية وإثنية، وتشوّهات اجتماعية) تفرض حاجةً إلى معاينات بصرية تلازمها. طال زمن التروي والتأمّل، وأضعف ـ بمرور الوقت ـ الأمل بظهور وثائقيات تاريخية تحليلية. أهمية وثائقيّ أحمد عبد ـ الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسي)"، في الدورة الـ33 (18 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" ـ تتأتّى من محاولته التقرّب من مناطق التوتّر والانفعال العراقيين، من منظور "شخصيّ"، تتداخل حساسياته مع "عامٍ"، لم ينفكّ عن تدمير الأفراد والخصوصيات. عبد جعل من الذاتيّ، في "القصّة الخامسة"، معبراً إلى العام الممزّق.

عقب الاحتلال الأميركي، جَرّب مخرجون عراقيون الدخول من ذلك الحدث إلى الشخصيّ ـ العائلي. ومن الأخير، "الجاهز" في الغالب الأعمّ، حاولوا المرور على ماضٍ أسود، ومقاربة حاضرٍ ملتبس ومشوّه الملامح. القصص الخمس لأحمد عبد تقترح مراجعة تاريخية أوسع للحروب العراقية، من منظور يقارب تحليلاً نفسياً لجموعٍ تقف، بسببها، على عتبة انهيار نفسي واختلال عصبي. كلّف أبطال قصصه الأربعة القيام بذلك الدور، وبحدود تجاربهم الشخصية، وأوكَل إلى قصّته الخامسة (صوته الداخلي) مهمّة عرض المشهد التاريخي، عبر أسئلة ملتاعة عن وجعٍ ونزفٍ عراقيين دائمَين.

التشظّي يطاول المشهد العراقي بأكمله، ويزحف إلى متن الوثائقيّ. يُربك مسار سرد قصصه، ويُشتّت تسلسلها. يُحيل اختلال توازن أبطاله إلى الحروب والصراعات التي زُجُّوا عنوة فيها. في القصّة الخامسة، تَخيّل الطفل (أحمد عبد) ـ وهو في التاسعة من عمره، يوم دخل الأميركيون إلى العراق ـ أنّ أبطال القصص الأربع سيحقّقون له نصراً مُرتجى في حروبٍ سابقة خاضوها. خيبته بموتهم جميعاً دفعته إلى التفكير بقصّة خامسة، يكتبها هذه المرة للسينما، ويكون هو بطلها المتواري خلف الكاميرا. صوته حاضرٌ، يشوبه قلقٌ طيلة مدّة الوثائقي (90 دقيقة). كلّ قصة تحكي تجربة خاصة. وكلّها تدور حول صراعات مسلّحة وحروبٍ جرت وقائعها في العراق. بطلُ كلّ واحدة منها يقف على حافة الانهيار.

 

 

والد أحمد زُجَّ في الحرب العراقية الإيرانية مطلع ثمانينيات القرن الـ20. عاش أهوالها وفظاعاتها، وحوّلته من جنديّ إلى رجلٍ يدفن جثث جنود، مُبعثرة الأجزاء. لا يريد نسيان وجوه القتلى. يُعيد رسمهم (تخطيط بقلم رصاص). حديثه البارد عن الموت مخيف، يتسلّل إلى سامعه ويسلبه طمأنينته، كما سلبت الحرب سنوات شبابه، وتركته منزوياً مع قلمه وأوراقه.

الراعي الموصليّ نصّار، خرّب مشهدُ الجثث، التي علقها مقاتلو "داعش" في البرّية، سويّتَه. صُورهم تأتيه في مناماته. لم يتذوّق طعم النوم ولا الراحة منذ أنْ وقعت عيناه عليها. شوّه المقاتلون أنفسهم دواخله، ولم يتبقّ له من طفولته البائسة ما يستحقّ التذكّر.

سؤال الموت ظلّ عالقاً في ذهن المقاتلة الإيزيدية، الشابّة آخين. أفْقَد سبي أهلها والدفاع عنهم استقرارها الداخلي. فعل القتل سيبقى تأثيره راسخاً فيها. فكرة العدالة ربما تخفّف من قسوته، لكنّها لن تمحي آثار تشوّهاتها النفسية. سبق لأحمد عبد الاقتراب من تلك المساحة في فيلمه القصير "طيور سنجار" (2018).

عدنان أسير الحرب في السجون الإيرانية. مُشرّد يسكن قاطرات المحطة المهجورة، القريبة من ساحات بغدادية، تشهد اليوم حراكاً شعبياً وانتفاضةً ضد فساد سياسيين، يواصلون القتل والاغتيال، كأسلافهم. عبثية عيشه واختلاله العقليّ نتاج ما مرّ به من تجارب مريرة مع أجهزة المخابرات العراقية. يموّه، بكلامه المبعثر، على قسوتها، ويتجنّب ـ بالإيغال في تلاعبه بالجُمَل ـ احتمال المرور بها ثانيةً.

القصّة الخامسة عن هؤلاء القريبين من حافة الانهيار، وعن العراق المفجوع بالكوارث والمُمزّق كأهله، والواقف على حافة هاوية، لا ينكر أحمد عبد شدّة عمقها، وخوفه من السقوط فيها. قصص مبعثرة لَمّها بعد طول ملازمة لأصحابها، في سيناريو ذكي (كتبه مع المنتج المشارك لؤي حفار).

كأمثاله من الأفلام ذات البنى المتراكمة، ومتعدّدة الشخصيات والأصوات، يلعب التوليف (محمد علي ورايا يمشه) دوراً مهمّاً في وضعها في سياقٍ درامي يحتكم إلى منطق سينمائي، يراعي اشتراطات فنّ بصري لم يتنازل صانعه عن إيفاء مفرداته حقّها، رغم تجهّم مناخه. أعطى للمصوّر البارع (سيف الدين) حرية التقاط جماليات الأمكنة، والتقرّب من جوّانيات الأشخاص من دون خشية من إفزاعها. تشبثّه بالجماليّ أحال النصّ السينمائي إلى مُنجز مهمّ، يسدّ إنتاجه المشترك (العراق ـ قطر ـ قناة الجزيرة الوثائقية) نقصاً في الوثائقيّ العراقي، المهموم بتسجيل اللحظة الراهنة التي يعيشها البلد، والاشتغال على كشف شدّة ارتباطها بتاريخٍ طويل من الانقلابات والفواجع.

المساهمون