لا يمنح النيلُ المصريين قوتهم وسقياهم فقط، فهو في جريانه الهادئ يمثل مصدر الإلهام الأول، للكاتب والملحن والمغني. النهر العظيم يمثل نصيباً جوهرياً من الأغراض الأربعة الكبرى للغناء المصري: الدين، والوطن، والحب، والنيل. غناء أضفى كل أوصاف الجمال والرفعة والسمو على النهر الأطول بين أنهار العالم وفقاً للدرس الجغرافي، لكنه أيضاً الأطهر والأقدس وفقا لتعاليم الوجدان الشعبي المصري. ومنذ عقود، لم يكن حديث النهر حاضراً قدر حضوره اليوم، فالقلق الشعبي من آثار سد النهضة الإثيوبي سيطر على أحاديث المصريين، فاستعادوا النيل في مجالسهم ومنتدياتهم، واستعادوا أغانيه التي "تفيض" بطربها ولا ينقطع مدادها.
في تاريخ التسجيلات، ربما كانت أغنية "النيل نجاشي" التي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب في فيلم "الوردة البيضاء"، عام 1933، أول الأعمال الغنائية التي يظهر خلالها النيل باعتباره موضوعاً رئيسا،ً كما تكتسب الأغنية أهمية من كونها ضمن مجموعة الأعمال التي صاغها أمير الشعراء أحمد شوقي بالعامية، خصيصاً ليغنيها النابغة الصاعد. وهي غريبة في استهلالها: النيل "نجاشي"، وهي كلمة تحمل في هذا السياق أكثر من معنى: فربما قصد بها الشاعر أن النهر الكبير لونه أسمر، وربما قصد أنه يتدفق من بلاد الأحباش، لكن في كل الأحوال، فإن عيون المصريين لا ترى لون المياه التي تخلط فيها السمرة باحمرار الطمي على حقيقته، وهو ما يبينه شوقي بقوله: عجب للونه/ دهب ومرمر، ثم يذهب خيال الشاعر إلى بعيد، فيرى النيل عازف أرغول يسبح بعزفه للإله، ثم يقر بأنه "حياة بلادنا"، ويدعو له بالنماء والزيادة.
تتطور الأغنية إلى مشهد الحبيبين، بعد أن استقلا "الفلوكة" الشراعية، وانطلقا على صفحة النيل، لقضاء "ساعة نزهة ع الميه". اتسم لحن عبد الوهاب بطابع مسرحي، لا سيما عند المحاورة المتخيلة بينه وبين "المراكبي": صلح قلوعك يا ريس... وهيلا هوب هيلا. كانت تلك الصياغة التلحينية بالغة التقدم أوائل الثلاثينيات، وكان النيل والفلوكة والمراكبي والشراع مصدر إلهام هذه الصورة البديعة في كلماتها ولحنها.
على تباعد زمني، يتناثر النيل غنائياً في أعمال عبد الوهاب، فشاطئ النهر هو الملتقى كما يقول أمين عزت الهجين: إمتى الزمان يسمح يا جميل... واسهر معاك على شط النيل، أو هو حامل الأشواق يجري بها ويفيض كما تقول كلمات حسين السيد. لكن مطرب وملحن بوزن عبد الوهاب، لم يكن ليترك هذا الغرض الغنائي الكبير من دون عمل كبير يكون كله لمديح النهر، ووجد غايته في قصيدة محمود حسن إسماعيل: "النهر الخالد" التي تصور النهر كمسافر، جعل من الخيال والسعطر والسحر والظلال زادا للطريق، وهي صورة تؤكد معاني الإلهام التي يمنحها النيل للشعب المصري.
كما تؤكد معاني العطاء الكامل، والإيثار: ظمآن والكأس في يديه... وهو في جريانه أهلك السنوات والقرون... شابت على أرضه الليالي، وضيعت عمرها الجبال... ولم يزل ينشد الديارا... ويسأل الليل والنهارا. كانت هذه حيثيات استحق بها النيل كل هذا الحب والتبجيل: والناس في حبه سكارى. لكن الشاعر ينتقل في تعظيم النهر إلى أبعد حد حين ينادي النهر قائلا: يا واهب الخلد للزمان... يا ساقي الحب والأغاني. وعلى الرغم من أن الأغنية تنتمي إلى النصف الأول من عقد الخمسينيات، إلا أن صوت عبد الوهاب فيها بدا أكثر شبابا، كأنما تأثر بسحر النهر الذي يجدد الحياة.
قبل سنوات من إطلاق "النهر الخالد"، وتحديداً عام 1949، كانت أم كلثوم قد أنجزت عملها الكبير للنهر المقدس، حين شدت قصيدة "النيل" من كلمات أحمد شوقي، وألحان رياض السنباطي، وهي قصيدة من تلك القلاع السنباطية الشاهقة لقوة بنائها اللحني شديد التماسك والمتانة: مقدمة موسيقية تستهل بجملة مرسلة للناي، ثم يدخل إيقاع الواحدة الكبيرة لتبدأ أم كلثوم غناءها بالاستفهام: من أي عهد في القرى تدفق... وبأي كف في المدائن تغرق... ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولا تترقق. فاستفهام المصريين عن مصدر النيل لا يخرج عن كونه نازلا من السماء أو متفجرا من الجنة،
ثم يؤكد شوقي معنى الحياة المرتبط بالنيل، حتى عندما يغرق الأرض، فإذا كان الإغراق مقترنا بالدمار والموت، فإن الشأن يختلف مع النيل: والماء تسكبه فيسبك عسجدا... والأرض تغرقها فيحيا المغرق، ثم يوالي شوقي معاني التبجيل للنهر: فمنه منابع الحكمة التي تعيي العقول، وهو بحر المكارم الزاخر، وهو الجاري على سنن الوفاء لا يخلف موعده. وفي إشارته إلى أسطورة عروس النيل، يؤكد شوقي أنها تزف إلى "ملك الملوك". هيبة الكلمات توافقت مع هيبة اللحن وجلال الغناء، لتنتج صورة حية نابضة هي الأفخم في الأعمال الغنائية التي امتدح بها المصريون نهرهم.
لكن أم كلثوم لم تكتف في غنائها للنيل بهذا النص الفصيح الصعب، فأضافت عام 1955 إلى رصيدها تحفة بيرم الوصفية "شمس الأصيل"، فدفعت بكلماتها إلى السنباطي، لينتج لحنا هو في الذرى من الألحان ذات الطابع الشعبي، بعدما ساعدته كلمات بيرم باستهلالها نادر المثال في العامية: شمس الأصيل دهبت خوص النخيل... تحفة ومتصورة... في صفحتك يا جميل. وبعد بناء المذهب، تتوالى أغصان ثلاثة: يا نيل أنا واللي أحبه نشبهك في صفاك، ثم أنا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا، ثم، أنا وحبيبي يا نيل غايبين عن الوجدان.
وبالطبع وبعد كل غصن يتكرر المذهب، وتأتي القفلة بكلمة "يا نيل". وهذه الأغنية تجعل من النيل معنى مركزيا، وكائنا حيا يخاطبه الشاعر بما يجد من متعة لقاء الحبيب على الشاطئ الساحر. ولم يذهب فيكتور سحاب بعيدا حين قال، إن ثمة إجماعا على أن "شمس الأصيل" هي أشد الأغنيات التصاقا بروح مصر، وتعبيرا عن نيلها وطبيعتها وريفها.
في مسيرتها الغنائية الممتدة عبر ستة عقود، كان لأم كلثوم اهتمام كبير بالنهر، الذي يذكر في غنائها العاطفي والوطني والوصفي، ففي "نشيد الجامعة" تخاطب الطلاب: يا شباب النيل، وفي "على بلد المحبوب" تنادي: يا مسافر على بحر النيل، أو ربما نتذكر كيف بدلت عبارة أغنية "يا ليلة العيد"، التي كتبت لتغنى على لسان جارية تعيش ببغداد في العصر العباسي، فحولتها من "يا دجلة ميتك عنبر" إلى "يا نيلنا ميتك سكر". وفي "فاكر لما كنت جنبي" تتذكر لحظات اللقاء التي تمت و"النيل جاري" و"الموجة بتجري ورا الموجة عايزة تطولها"، أو تذكرة الشعبين في مصر والسودان، بل وشعوب الوادي كله، برابطة النهر: وما هو ماء ولكنه... وريد الحياة وشريانها... وأهله منذ جرى ماؤه... عشيرة مصر وجيرانها... وصولاٍ إلى الغناء للسد العالي وتحويل مجرى النهر.
زعامة أم كلثوم وعبد الوهاب للغناء استلزمت أن يتزعما الغناء للنيل، ومن خلفهما سار المطربون المصريون، فيندر أن تجد منهم من لم يقدم عملا يمجد فيه النهر الأعظم. فشادية تقدم في فيلم "بشرة خير" أغنية "يا نيل" من كلمات جليل البنداري وحسن أبوزيد: يا جاي من السودان لحد عندنا... بالتمر من أسوان والقلة من هنا... يا نعمة م السودان بعتها ربنا... ومن عمر الزمان وأنت عندنا.
ومن كلمات سمير مجوب وألحان محمد الموجي، يقدم عبد الحليم حافظ أغنيته "يا حلو يا أسمر". وهي مديح عاطفي في النهر، يشبه ماء النيل في جريانه بأنه ذهب منساب: يا تبر سايل بين شطين... يا حلو يا أسمر... لولا سمارك جوا العين... ما كانش نور، ثم تذكر الأغنية معاناة الشعب في معيشته إذا تأخر النهر أو انقطع: الدنيا من بعدك مرة... يا ساقي وادينا الحياة... ده اللي يدوق طعمك مرة... بالمستحيل أبدا ينساه.
ويغني محمد قنديل فيصف عيون حبيبته: شباكين ع النيل. ويخاطب الفتيات قائلًا: عاشق يا بنات النيل. وبينما ترى فايزة أحمد أن "النيل عطور"، تتحدث نجاح سلام بلسان النهر فتقول: أنا النيل مقبرة الغزاة. فالنيل، قد يكون محور الأغنية باعتباره غرضا أساسا من أغراض الغناء المصري، وقد يكون حاضرا في خلفية العمل، بشاطئه ونخيله ومائه الجاري والأرض الخضراء على جانبيه.
قائمة الغناء للنيل تطول وتمتد وتتنوع، ومنها قسم ربما لم يلق ما يستحق من شهرة وانتشار، لأنه لا يبث في الإذاعات والتلفزات، لكنه قد يجد الآن ظرفا مواتيا، بسبب الأزمة التي تهدد النهر، فالشيخ إمام عيسى مثلا يغني من كلمات أحمد فؤاد نجم "عطشان يا صبايا وأنا عاشق ع السبيل... عطشان والميه في بلدي على عكس ما يجري النيل.. عطشان والنيل في بلدنا والزرع أخضر وجميل".
لكن كلمات كتبها شاعر أقل شهرة من نجم، وغناها مطرب أقل انتشارا من إمام كانت أكثر تعبيرا عن شح المياه وقلة نصيب الفرد منها ومن الغذاء، فقد كتب شاعر الدقهلية جاد الباز، ولحن وغنى المطرب علي الفوي: النيل ما عاد يملا القلة... ولا حتى بتساعنا الضلة... ومهما نطحن في الغلة... ما ينوبنا ماجور... وإذا كان ما غناه إمام أو علي الفوي قد مر عليه نحو نصف قرن، فإن ذلك يعني أن أزمة النيل الحالية لم يواكبها أحد بغناء جديد. نعم، سنجد أعمالاً لمطربين معاصرين، تتحدث عن جمال النيل وحلاوة مائه، مثلما غنى هاني شاكر ومحمد ثروت: واملا كفوفي م النيل وأشرب... حلوة الميه لو مصرية. لكننا بلا شك نفتقد إلى أعمال تتعامل مع الأزمة الحالية، باعتبارها الأخطر في تاريخ النهر.