- فيلم "سفر إلى غزة" يعكس الحياة اليومية في غزة عام 2018، مسلطًا الضوء على الصعوبات مثل إغلاق الحدود وانقطاع الكهرباء، وجهود الشباب الفلسطيني في مواجهة هذه الظروف.
- يسلط الفيلم الضوء على مسيرات العودة الكبرى السلمية عام 2018، ويدين الوحشية الإسرائيلية، مقارنًا الاحتلال بالاستعمارين الأميركي والأسترالي، موثقًا الفترة التي تسبق انفجار الأوضاع في غزة.
بعد مضي عامٍ على اندلاع "طوفان الأقصى" واستمرار العدوان الإسرائيلي الوحشي على الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، والإمعان في القتل والإبادة المنهجية، يُطرح السؤال مُجدّداً عن قدرة السينما على التقاط ما يجري وفضحه، والمساهمة في وضع حدّ له، وسط أجواء من الطمس والتزوير والتنكّر لمعاني الإنسانية والقيم الكونية المثلى.
بغض النظر عن حدود قدرة السينما على تغيير العالم وأوضاعه، كما يُعبّر عنها سينمائيون عديدون، كالألماني فيم فيندرز بقوله إنّ كلّ ما بوسع السينمائي فعله أنْ "يُحسِّن صُور العالم، وعبر ذلك يأمل أنْ يتحسّن العالم"، فإنّ الأفلام ليست الوسيط الأفضل لتمثّل الفظاعات والجرائم ضدّ الإنسانية، لكونها تُظهِر أكثر ممّا تضمر. والإظهار، كما هو معلوم، طريق مختصرة إلى التطبيع والابتذال. ولعلّ أبرز ما قيل في هذا الشأن إقرار مارغريت دوراس، في الصفحات الأولى من ملخّص "هيروشيما حبيبتي" (1959) لآلان رينيه، بأنّ "كلّ ما يُمكننا فعله الحديث عن استحالة الحديث عن هيروشيما. فادّعاء معرفة ما وقع في هيروشيما يمثّل، بديهياً، وهماً عقلياً". نصّ السيناريو النهائي مُفعمٌ بالأضداد: "تقتلني فتحييني"، و"أكذب عليك فأقول لك الحقيقة"، وطبعاً الجملة الأثيرة: "لم ترَ شيئاً في هيروشيما".
رغم كلّ ذلك، تظلّ وظيفة السينما أساسية وثمينةً في إبقاء شعلة الذاكرة مُتّقدةً ومحاربة قوى النسيان، التي تراهن على الآنيّة والمفعول المنفِّر للإغراق، في زمن الوفرة الرقمية، والسيل المتدفّق لصُورٍ تنتهي بفقدان كلّ تأثير. ذلك أنّ السينما تضع الأشياء في منظور تاريخي يشحذ التفكير، وتُرتّب الحكايات بحسّ إنساني، وبلاغة فنية تروم استجلاء الحقيقة، ولا شيء غيرها.
على مدى عقود، أظهرت أفلام وثائقية وتقارير إخبارية وتحقيقات صحافية سياسة القتل والقمع والمضايقات التي يتعرّض لها الفلسطينيون في قطاع غزّة والضفة الغربية، بالتفجيرات وعمليات القنص الممنهج وهجمات المستوطنين بحماية الجيش الإسرائيلي. هكذا، توثقت انتهاكات وعنف ما يسمى بـ"الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، وكيف جعل من تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم همَّه الشّاغل، خاصةً في القطاع، حيث ساهم الحصار في انعدام الآفاق أمام الشباب، وخلق صعوبات أمام الفلسطينيين في تلبية حاجاتهم الأساسية، من غذاء وماء وكهرباء، جاعلاً من غزّة غيتو كبيراً يُنبئ بالانفجار في أيّ لحظة.
أجواءٌ التقطها الإيطالي الشاب بِيَرو أوزبرتي في فيلمه الوثائقي "سفر إلى غزة" (2024، 67 دقيقة)، إذْ سافر إلى غزّة عام 2018، وكان يبلغ 25 عاماً، لتمضية ثلاثة أشهر، وتوثيق الحياة اليومية الصعبة لأصدقائه هناك: إغلاق الحدود، انقطاع الكهرباء، ضيق الأفق، ومن جهة أخرى نظرة تقليدية تجاه دور المرأة في المجتمع. رغم ذلك، تسعى سارة إلى تغيير الأوضاع بالاشتغال في مجال التوعية الإنسانية، بينما تتدرّب جمانة على المحاماة، ويتشبّث محمد بأحلامه الماركسية بعد فشله 13 مرة في مغادرة القطاع، من دون أن ينزع ذلك ابتسامةَ الأمل من وجهه.
حين تَظَاهر نحو 30 ألف فلسطيني في مسيرات العودة الكبرى السلمية (المعادل الفلسطيني لمسيرة الملح في الهند)، باتجاه الجدار، عام 2018، أطلق القنّاصة الإسرائيليون الرصاص عليهم وهم عُزّل من السلاح، فجُرح الآلاف، وقُتل أكثر من 60 شخصاً في اليوم الأول وحده. لكنّ العالم لم يُحرّك ساكناً، ما عدا إدانات محتشِمة في الأوساط الليبرالية. ولنا أنْ نتخيّل وقع هذا على نفوس الغزّيين، خاصة الجرحى، أو الذين فَقَدوا ذويهم في هذه الأحداث.
هكذا وضعت الوحشية الإسرائيلية، التي واجهت سلميّة احتجاجات غزّة الحدودية، حدّاً لنغمة التفاؤل الصامد لهؤلاء الشباب، كما بدا واضحاً في تبدّل نغمة "سفر إلى غزّة"، في القسم الثاني، من مذكّرات سفر لا تخلو من نبرة تفاؤل حذر وحسّ طرافة، واحتفاء بقدرة الإنسان على الصمود، إلى مرافعة إدانة بالغة القتامة لوحشية قمع تظاهرات، تُذكّر بأكثر صفحات البشرية سوداوية. لم يتردّد المخرج الشاب في وصف الأشياء بما ينبغي أن توصف به، من دون لوك الكلام أو تنميقه، مُتحدّثاً باستبصار مذهل عن "تطهير عرقي"، ومُقارناً الاحتلال الإسرائيلي بالاستعمارين الأميركي والأسترالي.
انتهى أوزبرتي من توليف فيلمه في 23 سبتمبر/أيلول 2023، أي قبل أسبوعين فقط من "7 أكتوبر". كأنّ "سفر إلى غزّة" وُجِد ليواجه السردية العمياء، التي تريد إقناعنا بأنّ كلّ شيء بدأ في ذلك اليوم. تكمن أهمية هذا الوثائقي في أنّه يُوثّق، بوسائل تقنية بسيطة، هذه الفترة الدقيقة التي تسبق انفجار الأوضاع. هذا يُذكّر بما كتبه الباحث رولان بارت، في مؤلّفه المرجعي "أسطوريات"، عمّا يُفسّر فعالية وانتهاكية أسلوب تشارلي تشابلن القصوى في انتقاد ميكانيزمات المكننة والاستلاب الرأسمالي في "الأزمنة الحديثة" (1936)، أو الإجرام النازي في "الديكتاتور العظيم" (1940)، بأنّه يُجسّد البروليتاري أو الضحية في المرحلة الفارقة، حين يكون لا يزال حائراً وغير مُدرك شرطه كضحية، ومُجسَّداً من خلال الطّابع المباشر لاحتياجاته الأولية، واغترابه التام على أيدي مُضطهديه. كما يلتقط المخرج الإيطالي شرط عيش الغزّيين في اللحظة الفارقة التي تسبق ثورتهم على أوضاع لم تعد تُطاق. ولعلّ أقسى ما أظهره أوزبرتي يتمثّل في شاب فَقَد قَدمه في العدوان الإسرائيلي (2014)، وحين طالب بفَكّ الحصار وحقّ العودة (2018)، لم يرحمه قنّاصو الجيش "الأخلاقي"، فأصابوا فخذيه وحتّى قدمه الاصطناعية برصاصات انشطارية.