لا تختلف أفغانستان، تاريخاً وحروباً على الأقلّ، عن بلدانٍ أخرى، تتورّط الولايات المتحدّة الأميركية في وحولها، فتنشغل هوليوود بها. والانشغال يصنع أفلاماً متنوّعة، يُناقش بعضها ـ بجدّية وعمق ـ أسئلة الحرب والانتماء والعنف والديمقراطية، والتداعيات النفسية على جنودٍ، يعودون إلى بلدهم مُحمّلين بأعطابٍ عدّة؛ ويتناول بعضها الآخر تلك الحروب بنَفَسٍ تجاري استعلائيّ بطوليّ، يُمجِّد أميركا وديمقراطيتها، ويُهين "السكّان الأصليين"، الذين يشهدون حروباً أميركية في بلدانهم، فيواجهونها بما يملكون، لكنّ هوليوود تحول دون إعلاء صوتهم، فهؤلاء "أعداء الأمّة"، وبعض الأفلام يُدينهم ويُحاكمهم ويُشوِّه صورتهم، ويُسيء إلى حقوقهم والتزاماتهم.
هوليوود مصنعٌ كبيرٌ للسينما. تعبير مُكرّر، لكنّه يختزل علاقة هوليوود بالعالم. فالمصنع يُنتج آلاف الأفلام سنوياً، ما يعني أنّ هناك استحالةً فعلية لغياب أي موضوع أو حالة أو انفعالٍ أو جغرافيا أو تاريخ عن "عاصمة الفنّ السابع". علماً أنّ سينمات أخرى تتناول حروباً ونزاعاتٍ وقضايا وأفراداً ومسائل تعني بلدانها وناس بلدانها، أو تعني مخرجين ومخرجات، لديهم هواجس وتساؤلات وتأمّلات في مسائل غير مرتبطة مباشرة بهم، وببلدانهم وناس بلدانهم.
سينما الحروب
لأفغانستان تاريخٌ من الحروب والاضطرابات والتبدّلات. جغرافيا واسعة، وإثنيات عدّة، وقبائل تملك جذوراً عميقة فيها، ولكلّ منها حكايات وذاكرة وحضور وتفاصيل. في 9 سبتمبر/ أيلول 2001، يُقتل أحمد شاه مسعود، أبرز شخصية أفغانية في مواجهة طالبان، وبعد يومين اثنين فقط، يسقط برجا "المركز العالمي للتجارة" في نيويورك بطائرتين مدنيتين، ويُعتدى على مبنى الـ"البنتاغون" (أرلنغتن، فرجينيا) بطائرة ثالثة، وتسقط طائرة رابعة (شانكْسْفل، بنسلفانيا) قبل بلوغ هدفها. منذ تلك اللحظة، تضع هوليوود خططاً لمشاريع سينمائية، فالحرب على الإرهاب، المُعلنة على لسان جورج دبليو بوش (20 سبتمبر/ أيلول 2001)، مادة غنية بكلّ ما يُثري خزائن الاستديوهات وشركات الإنتاج فيها، من دون التغاضي عن سينمائيين وسينمائيات تعنيهم الحرب كمفهوم ثقافي وأخلاقي، وكمادة للتفكير والتأمّل بأحوال البلد وعلاقاته المختلفة بالعالم والشعوب والحضارات.
وإذْ تذهب أفلامٌ كثيرة، مُنتجة بعد "11 سبتمبر/ أيلول"، إلى نواحٍ متنوّعة في أفغانستان وما يدور حولها وفيها، كما في الولايات المتحدّة نفسها وعلاقتها بذاك البلد، فإنّ السابق على اعتداء "الثلاثاء الأسود" ينتبه إلى أحداثٍ تجري هناك، فإذا بجون رامبو (سيلفستر ستالون) يخوض معارك أميركية إلى جانب الأفغان، لمواجهة الغزو السوفييتي (1979 ـ 1989)، في "رامبو 3" (1988) لبيتر ماكدونالد، بعد خوضه معارك بلده في فيتنام، هو الذي سيُنبذ من بلده، بعد خروجه من تلك الحرب، رغم تضحياته الجمّة.
لكنّ أفغانستان تحضر في السينما قبل رامبو بوقتٍ مديد، من دون أنْ يكون البلد ومسائله محوراً أساسياً. فالبريطاني تيرينس يونغ يُنجز، عام 1956، "زاراك"، متناولاً فيه صراعات بريطانية داخلية وأخرى مع قبائل المنطقة، على الحدود بين الهند البريطانية وأفغانستان.
عن أحمد شاه مسعود، هناك "مسعود، الأفغاني" (1998)، وثائقي فرنسي لكريستوف دو بونفيلّي، الذي يرسم بورتريه لشخصية قائدٍ أفغاني، يُقارع طالبان طويلاً، مُختاراً عام 1997 تحديداً، في تلك السيرة الغنية بأفعالٍ ومواجهات وتساؤلات. فالسينما غير الأميركية معنيةٌ بهذا البلد، وبالتحوّلات الدائمة، الحاصلة فيه بين حينٍ وآخر، خصوصاً مع ما يُعرف بـ"المشاركة في المجهود الحربيّ" لدولٍ أوروبية في الحرب على الإرهاب، كالدنمارك. عام 2004، يُعرض "إخوة" (ترجمة حرفية للعنوان الدنماركيّ، علماً أنّ القصّة ترتكز على شقيقين اثنين، هما الشخصيتان الأساسيتان) للدنماركية سوزان بِيْر، المتوغّل عميقاً في مسألة حسّاسة، تُناقش الموت والعلاقات العائلية والفقدان والخيانة والشكّ، وهذا كلّه في حكاية أبٍ جندي، له من زوجته التي يُحبّ ابنتان، وله شقيقٌ يتناقض وإياه في كلّ شيء. يُكلَّف بمهمّة للأمم المتحدّة في أفغانستان، وبعد حين "يظنّ" كثيرون أنّه مقتولٌ، فيتكفّل شقيقه بالاهتمام بعائلته، قبل عودته، التي تطرح التساؤلات كلّها.
لأهمية الحكاية واشتغالها السينمائي، تقتبس هوليوود فيلم بِيْر، بآخر له العنوان نفسه، "إخوة" (2009) لجيم شيريدان (تمثيل توبي ماغواير وجايك غيلّينهال وناتالي بورتمان)، وله الحبكة والتفاصيل والمناخ نفسه، فأحد الشقيقين يعود من أفغانستان (بل من "موته" المُعلن فيها) إلى عائلته، ليعيش خرابه الذاتي، أمام زوجته وابنتيه الاثنتين، وأمام شقيقه المهتم بعائلته في غيابه، بعد خروجه من السجن. الخراب الذاتي يفيض بأسئلة الموت والعائلة والشكّ والخيانة، تماماً كالفيلم الدنماركيّ.
مواجهات سينمائية
دنماركيٌ آخر، يُدعى توبياس لينهولم، يُنجز "حرب" (2015)، عن فرقة عسكرية تتعرّض لكمين من طالبان، فيُجرح جنديّ منها بجروح خطرة، وتتحوّل المهمّة إلى مواجهات حادة بين الفريقين، وبين الجنود وتساؤلاتهم المتفرّقة عن الحرب والموت والعلاقة بالآخر، بالإضافة إلى سؤال "جريمة حرب"، أبرز الأسئلة المطروحة في حروبٍ كهذه (جائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، في النسخة الـ88، المُقامة في 28 فبراير/ شباط 2016).
حرب أفغانستان مُثيرة لاهتمامٍ غير هوليوودي أيضاً. إلى الدنماركيين الاثنين، هناك المخرج الروسي فيودور بوندرتْشوك، مع "السرب التاسع" (2005)، الذي يستعيد عملية عسكرية سوفييتية، معروفة باسم "عملية ماجسيترال" (7 ـ 8 يناير/ كانون الثاني 1988): 39 مظليّا سوفييتيا يُدافعون بشراسة عن "تلة 3234" (مقاطعة باكْتِيّا، جنوب شرق أفغانستان) ضد مجاهدين أفغانٍ (يتراوح عددهم بين 250 و300)، ويُقتل فيها 6 مظليين و200 مجاهد، ويُجرح 28 سوفييتياً. الفيلم حكاية واقعية، تُستعاد في قراءة سينمائية لنزاعٍ دامٍ بين الاتحاد السوفييتي والمجاهدين الأفغان، في حربٍ تُشارك الولايات المتحدّة فيها، سينمائياً، عبر رامبو.
عتيق رحيمي، الروائي والمخرج الأفغاني الفرنسي، مُشارك أساسيّ في تحويل بعض السينما إلى متتاليات بصرية عن أحوال بلده وناس بلده، في مرحلة طالبان. "أرض ورماد" (2004) و"حجر الصبر" (2013) مقتبسان من روايتيه اللتين تحملان العنوانين نفسيهما (2000 و2008). حامل "جائزة غونكور" عن "حجر الصبر" (10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008)، يغوص في خرابِ بلده، بسبب الغزو السوفييتي، مع جَدّ يرافق حفيده، المُصاب بعطبٍ في أذنيه جرّاء انفجار قنبلة قريباً منه، بحثاً عن والد الحفيد، الذي يعمل في مصنعٍ بعيدٍ جداً؛ أو مع امرأة (غولشفتيه فرهاني) تعكس، في عينيها وملامح وجهها وحركات جسدها ويديها ونظراتها وتأمّلاتها الصامتة أحياناً، غليان بيئة مُقيمةٍ في حربٍ أهلية في كابول.
يُلاحَظ أنّ الاقتباس السينمائي يتساوى، بسويته الجمالية والسردية والفنية والنفسية والاجتماعية، مع ما في الروايتين من تفاصيل وحكايات وحالاتٍ. لعلّ سبب ذلك عائدٌ إلى أنّ مخرجَ الفيلمين كاتبُ الروايتين أيضاً، ما يُعين على انغماسٍ أعمق وإدراكٍ أهمّ للجوانب المحيطة بالنواة القصصية. يُلاحَظ أيضاً أنْ لا إدانة مباشرة ولا خطابية جوفاء ولا تصنّع فنيا في مقاربة مجريات أحداثٍ واقعية، أو على الأقلّ مستلّة من وقائع تلك المرحلتين القاسيتين في أفغانستان، في ثمانينيات القرن الـ20.
هذه اللاإدانة في فيلمي عتيق رحيمي، رغم ما يُستشفّ فيهما من تفكيك لبعض الاجتماع وتفاصيله العنفية وقواعده الصارمة في التعامل مع الناس (والنساء خاصة)؛ تُقابلها إدانة شبه مباشرة في فيلمٍ أميركي مستلّ أيضاً من واقعة تجمع السياسة بالتجارة والأعمال بالاستخبارات، بسرد مقتطفات من سيرة حياة رجل سياسي، في "حرب تشارلي ويلسن" (2007) لمايك نيكولس (تمثيل توم هانكس وجوليا روبرتس). في سيرته، تتداخل حياة الترف والسهرات بخبرته الكبيرة بالسياسة الدولية، من دون التغاضي عن مبادئه الوطنية، المؤمنة بعظمة أميركا. سيرة سينمائية ترصد شيئاً من حقبة رونالد ريغان، من خلال صفقات مختلفة في أفغانستان، والصراع الحادّ مع الاتحاد السوفييتي السابق.
تنويعٌ بصريّ
رغم أهمية المواضيع الاجتماعية والسياسية والاستخباراتية والاقتصادية، التي تسم أفغانستان الخاضعة لاحتلال سوفييتي سابق على حكم طالبان، هناك أفلامٌ تستند إلى بعض تلك العناوين العامة، من دون التعمّق في اشتغالاتٍ سينمائية تتمكّن من كشفِ بعض المستور، وتفكيك بعض المخبّأ في السياسات الدولية، والحراك الأفغاني الداخلي. "سنونوات كابول" (2019) للفرنسيتين زابو برايتمان وإلِيا غوبي ـ مفِلَكْ، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (2002) للكاتب الجزائري ياسمينا خضرا، يتميّز بجانبه التحريكيّ، في سرد حكاية عامّة عن إرهابٍ وفوضى وتبدّلات خطرة. هناك اقتباس آخر عن كتاب بعنوان "الناجي الوحيد" (2007) للبريطاني باتريك روبنسن، المستند فيه على حكاية ماركوس لوتْرّل، الجندي في فرقة SEAL، في البحرية الأميركية: الفيلم، المحافظ على العنوان نفسه، مُنجز عام 2013، وفيه يستعيد مخرجه وكاتبه بيتر بيرغ الفشل الذريع في تنفيذ عملية "الأجنحة الحمراء" (28 يونيو/ حزيران 2005) للفرقة نفسها، في معركةٍ ضد طالبان.
للأميركيين رغبةٌ في تبيان الأسى والقهر وعقدة الذنب في الجنديّ الأميركي، إنْ يكن مقاتلاً بارعاً، له نجوميته بين رفاق السلاح، أو مُحطّماً جرّاء عجزه عن احتمال صخب الحرب، خصوصاً تلك الحرب البعيدة عن بلده. هذا سؤال مطروحٌ في بعض أفلام الحرب في هوليوود، الباحثة عن إدانة، مبطّنة أو مباشرة، للإدارة السياسية والقيادة العسكرية الأميركيتين، كما في رائعة روبرت ريدفورد، إخراجاً وتمثيلاً، بعنوان Lions For Lambs (يصعب ترجمتها إلى العربية، رغم أنّها تعني أولئك "الأسود الذين يُقدّمون أنفسهم كحملانٍ")، المنجز عام 2007 (مع ميريل ستريب وتوم كروز).
ريدفورد، السجاليّ في أفلامٍ عدّة له، مُدرِّس يتطوّع طالِبَان اثنان في صفّه بالجيش الأميركي لإثبات وطنيّتهما، فيلتحقان بفرقة عسكرية في أفغانستان، بينما السياسة تلعب أدواراً بشعة، وخطط القيادة العسكرية غير ملائمة لجنودٍ يدفعون حياتهم ثمن مغامرات في السياسة والعسكر. هذا اختزال مكثّف لفيلمٍ أعمق من هذا، وأقدر على تفكيكٍ نقديّ سجاليّ لأميركا.
يُشار إلى أنّ للقناة البريطانية "بي بي سي" فيلماً وثائقياً بعنوان "كسر الصمت، الموسيقى في أفغانستان" (2005)، لسيمون برغتن، عن كيفية استعادة سكّان كابول حقّهم في الإنصات إلى الموسيقى، وفي عزفها، بعد سقوط طالبان. بينما "روك كابول" (2018)، لترافيس بيرد ـ الذي يميل إلى لغة الـ"فيديو كليب"، المشغولة بحِرفية متينة الصُنعة، من دون تبنّيها كلّياً ـ فيتناول صراعاً تاريخياً بين الأيديولوجيا المتزمّتة، والرغبة في الخروج عليها. سيرة فرقة شبابية أفغانيّة، تعزف موسيقى "الميتال"، فالموسيقيّ والصحافي الأسترالي بيرد مهمومٌ بمواكبة يومياتها، من دون الابتعاد عن نبض المدينة وتبدّلاتها، منذ تسلّم طالبان الحكم، وبدء الحرب الأميركية عليها (إقامته في كابول ممتدّة على 7 أعوام). فبمواكبته الفرقة ويومياتها وانشغالاتها، وهواجس أفرادها الأربعة، يعاين بيرد مسائل متعلّقة بالفن والهوية والانتماء والهجرة والصداقة، وبموقع الموسيقى في بلدٍ متشدّد في مناهضتها، وبحضور أميركا في تلك البقعة الجغرافية، من دون الانزلاق إلى فخّ السياسة المطلقة، فهذا ليس شأن الفيلم ومخرجه. مع بيرد، يتداخل الخاص (فرقة "منطقة مجهولة"، المؤلّفة من بيدرام عازف الطبول وشقيقه قاسم (Bass)، ولامار عازف الغيتار والمغنّي، وقيس عازف الغيتار أيضاً) بالعام (أحوال أفغانستان وشبابها، وانقلابات أحوالها وتبدّلات مجتمعها).
هناك أيضاً "عدّاء الطائرة الورقية" (2007) لمارك فورستر، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (2003) للأفغاني الأميركي خالد حسيني، والمكترث بوضعٍ أفغاني عشية الغزو السوفييتي، بسرده حكاية عائلة بورجوازية منفتحة، يتعامل سيّدها مع خادم له باحترام كبير، قبل أن ينقلب كلّ شيء على الجميع، خصوصاً على الولدين الصديقين (ابنا العائلة والخادم)، اللذين يفترق أحدهما عن الآخر في ظروفٍ صعبة. صورة سينمائية عن بلدٍ، يحتلّه السوفييت، فتحصل فيه متغيّرات كثيرة. يصعب حصر الأفلام كلّها المعنيّة بأفغانستان. الانسحاب الأميركي من ذاك البلد (المنتهي في 31 أغسطس/ آب 2021)، تاركاً حركة طالبان تستعيد سيطرتها الكاملة عليه، دعوةٌ إلى تذكّر نتاجات سينمائية متفرّقة مهتمّة بذاك البلد، كما بالسياسة الأميركية وخططها الاستراتيجية والعسكرية هناك.