هناك خصوصية فنيّة كبيرة تطبع السينما الفلسطينيّة في المُتخيّل العربي. يجزم البعض أنّ الصورة المذهلة، التي يتمتّع بها الفيلم الفلسطيني في وجدان الناس، لا تُجابهها ـ منذ سبعينيات القرن الماضي ـ إلاّ السينما المصرية بواقعيتها السحرية، مع فرق فنيّ كبير يجعل السينما الفلسطينيّة نوعيةً لا كمية، وأكثر التحاماً وتجذّراً في بيئتها وأرضها وتاريخها.
في صيرورتها التاريخيّة، ليست السينما الفلسطينية مجرّد ترف بصريّ يجعل الناس يقبلون عليها للاستمتاع والاستهلاك، إذ غدت قدراً لا مَفرّ منه في التاريخ المعاصر لفلسطين، ووسيلة ناجعة للتحرّر من أشكال الاستيطان الصهيوني، منذ أنْ فطن الكاتب غسان كنفاني إلى أهميّة السينما في الثورة على مختلف القوى الإسرائيلية والجهات الأجنبية التي تتستّر عليها، سياسياً وقانونياً وعسكرياً، بجملة تنميطات استشراقية.
برز الوعي بأهميّة الصورة السينمائية منذ وقت باكر، وراكم فيها مخرجون عديدون أعمالاً سينمائية تظلّ في طليعة المتون البصريّة القويّة، منذ نشأة أوّل مجموعة سينمائيّة رافقت بواكير حركة التحرّر الوطني، وصولاً إلى التجارب السينمائية الفردية في الأعوام الـ20 الأخيرة.
هنا، التقت "العربي الجديد" نقّاداً عرباً، لرصد صورة فلسطين بالنسبة إليهم، ومنزلتها في وجدانهم، انطلاقاً من تواريخ وصُوَر وحكايات وقصص وسياقات، لتشريح مدى الحضور الفلسطينيّ في سينما بلدانهم.
راشد عيسى (فلسطين/سورية)
في الأعوام الـ10 الماضية، على الأقلّ، لم تعد أفلام القضية الفلسطينية في صدارة المشهد. ففيها، كانت قضايا الربيع العربي محور النقاش والتمويل والحضور على شاشات العالم. فلسطين، كقضية مركزية، تراجعت أمام أولوية الحريات والديمقراطية، والأحوال الاجتماعية والاقتصادية في بلدان الربيع العربي.
معلومٌ أيضاً أنّ عدداً لا يستهان به من صنّاع السينما الفلسطينية هم عربٌ وأجانب. هكذا، يُصبح مفهوماً تراجع مكانة الفيلم الفلسطيني، تمويلاً وعرضاً وإنتاجاً وحضوراً، في المهرجانات العالمية. لكن، حتّى على المستوى الفلسطيني نفسه، يحسب المرء أنّ السينما الفلسطينية في تراجعٍ، فما أُنتج في العقدين الأخيرين لا يتناسب مع الحيوية الهائلة التي شهدتها السينما الفلسطينية منذ بدايتها، إلى سينما الثورة الفلسطينية خصوصاً التي اشتُغلت أفلامها رغم الظروف القاسية، من حرب وغياب بنى ومؤسّسات مستقرّة، وصولاً إلى أفلام إيليا سليمان وهاني أبو أسعد ونجوى نجار ومي المصري، وفلسطينيين عديدين، وصلت أفلامهم إلى شاشاتٍ ومنابر رفيعة المستوى.
ما أُنجز في الـ20 عاماً الأخيرة لا يُقارب تلك الحيوية. مثلاً، يُمكن الانطلاق من "هدية" (2020) لفرح النابلسي، المرشّح رسمياً لـ"أوسكار" أفضل فيلم قصير: يُعالج موضوعاً أثيراً في السينما الفلسطينية، أي حواجز الاحتلال. لكن، يصعب تقبّل معالجة تقليدية مُكرّرة، بعد أن تناول إيليا سليمان الموضوع نفسه بشكلٍ مبتكر في "يد إلهية" (2001).
سليمان الحقيوي (المغرب)
في العقدين الأخيرين، ورغم ارتباطها بالأحكام السابقة، حاولت السينما الفلسطينية التعبير عن الإنسان الفلسطيني، متجاوزةً انتظارات صناديق الدعم ومعايير المهرجانات. في هذه الحالة، بدأ الفيلم الفلسطيني، مع المخرجين الذين عاشوا في فسلطين أو خارجها، البحث عن قوالب لحكايات معروفة (معاناة العبور في نقاط التفتيش، انقطاع الكهرباء، حقّ العودة)، مع جهدٍ في الفصل فيها بين السياسي والإنساني، واختيار الموضوع الأنسب للروائيّ، والقصّة الملائمة للتسجيلي. يُشار هنا إلى أنّ النجاحات المتفاوتة لمخرجين، كهاني أبو أسعد وإيليا سليمان ورشيد مشهراوي وآن ـ ماري جاسر وأمين نايفة وغيرهم، تَعِي أنّ الانحياز الكامل إلى الموضوع، أي تغليب السياسي، سيؤدّي في النهاية إلى اختزال وتناسخ محدود التأثير.
جزءٌ كبير من هذا الوعي الجمالي يتجلّى في أفلام سليمان، بدءاً من "سجل اختفاء" (1996)، وصولاً إلى "إن شئت كما في السماء" (2019)، وفيه نجح في الانتقال بالموضوع الفلسطيني إلى جغرافيات أخرى، بل تهكّم على السياسيّ عبر كوميديا مُبتكرة. ولم تفته الإشارة إلى معضلة السينما الفلسطينية، أي إخراج فيلم فلسطيني بمقاسات الآخر، عن الموضوع الفلسطيني. الفيلم تأكيدٌ على أنّ ملاذ السينما الوحيد هو الفنّ.
صفاء الليثي (مصر)
نجحت السينما الفلسطينية في احتلال مكانة عالية جداً في المهرجانات الدولية، كما في وجدان محبي السينما الراقية، التي تُعبّر عن معاناة الشعوب. أجبر إيليا سليمان "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" على أن يكتب في الكتالوغ اسم دولة إنتاج فيلمه "يد إلهية" (2002) "إقليم فلسطين". فيلم كبير، فاز بجائزة لجنة التحكيم حينها، ويواصل في أفلامه التعبير عن وجود شعبه، مُنطلقاً من بلدته الناصرة، وصولاً إلى فيلمه الأخير "إن شئت كما في السماء" (2019). بعد مسيرة للبطل تحاكي مسيرته الشخصية، في محاولةٍ للعمل في باريس ونيويورك، يعود إلى إقليمه الساكن في عقله وقلبه، إلى فلسطين، مع أغنية جماهيرية، يرقص عليها الشباب وهو صامت، على وجهه شبح ابتسامة. لا يتكلّم طوال الفيلم إلاّ جملة واحدة ردّاً على سائق سيارة أجرة أسود، يأخذه من باريس إلى المطار، ليصل إلى الولايات المتحدة: "من أي بلدٍ أنت؟"، ينطق إيليا: "من الناصرة". يسأله السائق: "الناصرة؟ في أيّ بلد؟"، فيُجيبه: "في فلسطين. أنا فلسطيني". فرملة قوية، ثم ينظر السائق باندهاش أبله: "فلسطيني؟ لأول مرة أقابل شخصاً فلسطينياً".
قبله، خرج ميشيل خليفي من الناصرة أيضاً، وظلّ يُقدّم دراما تسجيلية، مُعبّرة وموجعة، عن الحكاية الفلسطينية، بدءاً من "الذاكرة الخصبة" (1980) الذي صوّره في بلدته، ثم الروائي الطويل "عرس الجليل" (1987) الذي فاز بجوائز عدّة، ويواصل دوره معلّمَ سينما في منفاه الاختياري، بروكسل.
تأتينا أفلامهم، ونشاهدها في "مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية" و"مهرجان القاهرة"، وآخرها الفيلم المنتمي إلى السينما الفلسطينية الجديدة "غزة مونامور" (2020) للأخوين عرب وطرزان ناصر. نحتفي بالفيلم، ولا ننسى ما طلبه رشيد مشهراوي أن نُعامل الفيلم بما يستحقّه من تقدير موضوعي، من دون انحيازات عاطفية. مشهراوي أول سينمائي فلسطيني أنجز سينما في الأراضي الفلسطينية المحتلة. نعتبره سفير السينما الفلسطينية إلينا، منذ "حتى إشعار آخر" (1994) الذي يؤرّخ لبداية سينما فلسطينية، لأنّه صُوّر بطاقم فلسطيني في الأراضي المحتلة، كما كتب الناقد المصري سمير فريد.
عُلا الشافعي (مصر)
لا شكّ في أنّ السينما الفلسطينية صوت القضية وصورتها في الأعوام الماضية، حيث تحمّل المخرجون الفلسطينيون تبعات السياسة، بمعنى أنّ كلّ ما تعرّضت له القضية الفلسطينية من ظلم، وصورة ذهنية مغرضة يعمل الاحتلال الإسرائيلي على تصديرها طوال الوقت، عملت السينما على تصحيحه، بالإضافة الى ما ارتكبه السياسيون بحقّ فلسطين.
السينما، بنوعيها الروائي والتوثيقي، بوّابة الأمل لحقيقة القضية. عكست ما يتعرّض له الفلسطينيون من ظلم. لذا، لا نستطيع الحديث عن السينما الفلسطينية من دون ذكر أسماء مخرجين، كميشيل خليفي ("عرس الجليل" عام 1987، و"نشيد الحجر" عام 1991، و"حكاية الجواهر الثلاثة" عام 1995)، ورشيد مشهراوي الذي لا يزال يعمل ويُقدّم أفلاماً وثائقية وروائية ("حتّى إشعار آخر" عام 1994، و"حيفا" عام 1996، و"تذكرة إلى القدس" عام 2002، و"انتظار" عام 2005، و"عرفات أخي" عام 2005، و"فلسطين ستيريو" عام 2013)، ومحمد بكري ("جنين جنين" عام 2002).
اللافت للانتباه أنّ هناك جيلاً تحمّل حقاً عبء وتبعات ما يحدث على مستوى السياسة في القضية الفلسطينية. كانت هناك محاولات لحصارهم وإقصائهم، إلاّ أنّهم واصلوا النضال السينمائي ليصبح صوتهم مسموعاً، ومَهّدوا الأرض لأجيالٍ جديدة من المخرجين الشباب، من فلسطينيي الـ48 والضفّة الغربية الذين يعيشون في المنفى.
ظهرت تجارب سينمائية مهمّة وواعدة لإيليا سليمان ("يد إلهية" عام 2002، و"الزمن الباقي" عام 2009، و"إن شئت كما في السماء" عام 2019)، وهاني أبو أسعد ونجوى نجار ومي المصري وآن ـ ماري جاسر وشيرين دعيبس ومهدي فليفل. هؤلاء وغيرهم رفعوا اسم فلسطين في المحافل الدولية، وصار الصوت مسموعاً ومؤثّراً، وحصد بعضهم جوائز عالمية من مهرجانات أساسية (كانّ وبرلين وفينيسيا). اقتنص هاني أبو أسعد جائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عن "الجنّة الآن" (2005). بعضهم ترشّح للجائزة نفسها.
صار المخرجون الفلسطينيون يتواجدون في لجان تحكيم المهرجانات. من خلال أعمالهم ومشاركاتهم الفعّالة، ستظلّ القضية الفلسطينية حاضرة، ولو كره الكارهون. بالاضافة طبعاً إلى ما تحقّقه المقاومة على الأرض.
ورغم المعاناة، وما يتعرّض له المخرجون الفلسطينيون من تعنّت ومحاولات حصار، حقّقت السينما الفلسطينية مُنجزاً حقيقياً على مستوى العالم، وحضوراً دائماً، وحفظت الهوية الوطنية.
محمود الغيطاني (مصر)
لم تكن السينما الفلسطينية مجرّد رقم عابر في تاريخ السينما العربية والعالمية، إذ تركت بصماتها العميقة في صناعة السينما العالمية، وفازت بجوائز كثيرة في مهرجانات أجنبية مختلفة، مؤكّدة قدرتها على إثبات وجودها، وأنّ ما تُقدّمه ـ في إطار قضيتها أو بعيداً عنها ـ ليس عابراً، أو غير مُهمّ، فهو يترك أثراً، ليس بفضل الموضوع السينمائي فقط، بل بالتقنيات والأسلوب السينمائيّ، التي تُقدّم نفسها عبرها.
صحيحٌ أنّ هناك أفلاماً عدّة جيّدة، كـ"عرس الجليل" (1978) لميشيل خليفي، و"حتى إشعار آخر" (1994) لرشيد مشهراوي، و"سجّل اختفاء" (1996) لإيليا سليمان، الذي كان أول فيلم فلسطيني يُعرض في الولايات المتحدة الأميركية، ويحصل على جائزة "لويجي دي لاورينتيس" في "مهرجان فينيسيا" عام 1996، ما شجّع المخرج على مزيدٍ من أفلامٍ فنية جيدة، فحقّق بعده "يد إلهية" (2002)؛ إذاً، صحيحٌ أنّ هناك أفلاماً جيدة سابقاً، لكنّ المُلاحَظ أنّ ما قدّمته السينما الفلسطينية في الأعوام الـ20 الماضية يتميز، بمجمله، بالإتقان الفني، والأسلوبية التي جعلتها تتصدّر مهرجانات العالم والفوز بجوائز عن جدارة. ولعلّ "غزة مونامور" (2020) للأخوين ناصر وعرب طرزان من أهمّ الأمثلة على ذلك، إذ كان عرضه الأول في مسابقة "آفاق"، في "مهرجان فينيسيا"، قبل حصوله على جائزة أفضل فيلم آسيوي في "مهرجان تورنتو"، وافتتح "مهرجان القاهرة السينمائي" العام الماضي.
في الإطار نفسه، لا يُنسى "الجنّة الآن" (2005)، الفيلم المهمّ لهاني أبو أسعد، والفيلم البديع "ملح هذا البحر" (2008) لآن ـ ماري جاسر، و"عمر" (2013) لأبي أسعد أيضاً، وغيرها من أفلامٍ، أثبتت أنّ السينما الفلسطينية تمتلك رؤية فنية وأسلوبية تجعلها تنافس سينمات العالم بجدارة.
ناجح حسن (الأردن)
على مدار نشأتها، مرّت السينما الفلسطينية في أكثر من تحوّل ومحنة، تحت وطأة متغيّرات سايرتها المشكلة الفلسطينية في القرن الأخير، في ما يقارب عمر صناعة الأفلام في المنطقة. ومع بواكير تأسيس السينما المصرية، كان يمكن أن يكون هناك بالتوازي صناعة أفلام للسينما الفلسطينية، مع قدوم الأخوين بدر وإبراهيم لاما للاستقرار في بلدهما فلسطين، بعد أعوامٍ طويلة من هجرة والديهما إلى أميركا اللاتينية، أواخر القرن الـ19. إلاّ أنّ الأخوين لاما توجّها إلى مصر، التي كانت تشهد بدايات الصناعة السينمائية، في مرحلة تالية تعود إلى ثلاثينيات القرن نفسه.
إلى ذلك، أنجز شبابٌ فلسطينيون ركائز أولى للفيلم الفلسطيني، بتصويرهم أحداثاً تُسجّل حركة الحياة اليومية آنذاك، في السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع، وصولاً إلى إنجاز فيلم روائي طويل، اقترب من سمات الأعمال المصرية السائدة آنذاك. احتُفل بعرضه في صالات السينما في القدس وحيفا وعكا ويافا التي كانت تعيش حيويةَ عروضٍ سينمائية، إلى جانب حفلات الموسيقى الشرقية والمسرحية والاحتفالات السينمائية الآتية من مصر لأشهر الفنانين حينها، كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وفاطمة رشدي.
مع حرب 1948 واحتلال أجزاء من فلسطين، توجه صنّاع السينما الفلسطينية إلى الأردن، وكانت الضفة الغربية تحت سيادتها، مُشكّلةً جزءاً منها. اندمج هؤلاء الصنّاع مع نظرائهم في الأردن، وحقّقوا أعمالاً كثيرة تُخاطب الوجدان الدولي عن القضية الفلسطينية، لكن بأساليب إعلامية تُدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الناس. مع هزيمة حرب الأيام الـ6 (1967)، واحتلال كامل الأراضي الفلسطينية، وجد صنّاع الأفلام أنفسهم يحقّقون أعمالاً روائية وتسجيلية تحت مظلة "مؤسّسة السينما الفلسطينية"، التي يشاركهم فيها سينمائيون متضامنون من بلدان عربية وأجنبية، في أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا. أعمال يغلب عليها فضح الممارسات الصهيونية، وقليلٌ منها روائية، أُنجزت في مؤسّسات مصرية وسورية ولبنانية وعراقية وأردنية، أنضجها وأكثرها تأثيراً وتعبيراً درامياً وجمالياً "كفرقاسم" (1975) للّبناني برهان علوية، و"المخدوعون" (1972) للمصري توفيق صالح.
ثمانينيات القرن الماضي، حدثت نقلة نوعية مع عودة الفلسطيني ميشيل خليفي إلى الجليل، في فلسطين، مُقدّماً فيلميه الرائعين "الذاكرة الخصبة" (1980) و"عرس الجليل" (1987). لاحقاً، ظهر أقرانٌ له، كرشيد مشهراوي وهاني أبو أسعد ومحمد بكري، قدّموا أفلاماً عالية المستوى، تُخاطب المتلقّي بافتتانٍ، وتتأمّل الواقع بحذقٍ وبراعة مزنّرة باشتغالاتٍ على لغة الصورة، المشبعة فكرياً بأطيافٍ من حياة المجتمع الفلسطيني في ظلّ الاحتلال. أفلامٌ لاقت رواجاً في مهرجانات عربية ودولية كثيرة.
استمرّت هذه الإنجازات إلى بداية القرن الحالي، مع ظهور أفلام المخرجات نجوى نجّار وآن ـ ماري جاسر ومي المصري وشيرين دعيبس، اللواتي كنّ يقطنّ في المهجر والشتات. هذا أثرى صناعة الأفلام الفلسطينية.
لكن، هناك ما أثار جدلاً في بعض الإنجازات لمخرجات ومخرجين شباب جدد، حول قبولهم هيمنة صناديق التمويل الأجنبية وابتزازها، ما أصاب أعمالهم بالضعف والفشل والركاكة،في مواضع كثيرة، رغم مُشاركتها في مهرجانات كثيرة.
وسيم قربي (تونس)
شهد حضور القضية الفلسطينية في السينمات العربيّة تراجعاً ملحوظاً، مُقارنةً بثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، رغم أنّ القضيّة الفلسطينية بقيت تمثّل إشكالاً جوهرياً لدى المبدعين، وفي ذهنيّة الجمهور. التطرّق إلى القضية الفلسطينية في صورتنا الفيلمية يتجاوز المسألة الإبداعية، لكونه التزاماً بقضيّة شعب تشبّث بأرضه وهويّته. في هذا السياق، تتموقع الصورة السينمائية بصيغة متعاطفة ومتضامنة، لإبلاغ صدى القضية عبر الشاشات السينمائية، في فضاء رمزي مُحاصر بحرب الصُور.
لا خلاف في القول إنّ السينمائيين العرب مؤمنون بقضية الشعب الفلسطيني. لكنّ الإمكانيات السينمائية لا تسمح بإنتاج أفلام مُكثّفة بهذا الخصوص، والإنتاج السينمائي الحقيقي لا بدّ أن ينطلق من صنّاع السينما الفلسطينية.
في الإطار نفسه، يُشار إلى أنّ حضور القضية الفلسطينية يبقى، بدوره، مُحتشماً في المهرجانات السينمائية العربية، لأسبابٍ عدّة، منها التوجّه السياسي الداخلي أحياناً، وتفادي المسارات السياسية أحياناً أخرى، بالإضافة إلى الرقابة السينمائية للمهرجانات، وخصوصيّة التوجّهات الثقافية.
في مقابل هذا، دأب منظّمو "مهرجان القدس السينمائي"، بإدارة عز الدين شلح، على إشراك فاعلين سينمائيين من العالم العربي، كاحتفاء جماعي وتشاركيّ بالسينما الفلسطينية. في تونس، يختلف الوضع. وإذا لم يكن ممكناً الحديث عن تناول مُكثّف للقضية الفلسطينية سينمائياً، فإنّه يُمكن ذكر "السنونو لا تموت في القدس" (1994) لرضا الباهي، الذي تناول القضية برؤية جريئة ومغايرة. كما احتفى الراحل شوقي الماجري بالمقاومة الفلسطينية في "مملكة النمل" (2012). ولعلّ ما يميّز التناول التونسي ذاك الانتصار للقضية الفلسطينية منذ عقود، إذ تحضر السينما الفلسطينية في "أيام قرطاج السينمائية" بصفة دورية، عروضاً وندوات. كما يخصّص "المهرجان الدولي لسينما الهواة بقليبية" فقرة الافتتاح، في كلّ دورة، لاستضافة فيلمٍ فلسطيني، ما يعني أنّ "الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة" تنتصر للقضية، في مُساندة مُطلقة نابعة من الثوابت الراسخة، والانتصار للقضايا الإنسانية العادلة.
عُرفت السينما في تونس بأرضيّتها الثقافية الصلبة، وبثوابتها الفكرية، وتشبّثها بالمبادئ التي تتميّز بالالتزام. في هذا الخصوص، يُشار إلى أنّ سينما الهواة لم تخضع يوماً لتوجيهات السلطة، ولم تقبل يوماً المتاجرة بالقضية الفلسطينية. تثوير المواقف يجب ألاّ يرتبط بالأحداث والمناسبات، بل عليه أنْ يرتسم كقناعة راسخة، لا ينتظر فيها لحظة مأزومة ليُدرك أهمية قضيته.