لقطات مُصوّرة في أحياءٍ مختلفة، بعضها فارغٌ كلّياً. أبنية مدمّرة. أناسٌ يبيعون خضاراً وفواكه. رجال وشبان يعملون في مهنٍ يدوية عدّة. حكايات تُروى على ألسنة أفراد تنبثق منهم/منهنّ. كاميرا تتجوّل في نفوس وأزقّة. كلامٌ، تتكرّر فيه مفردتا غضب وحزن، وهاتان مشترك أساسيّ بين بعض رواة الحكايات، لكنّ الغضب والحزن نفسيهما يظهران في ملامح آخرين أيضاً، وإنْ من دون تعبير مباشر.
وصفٌ كهذا يقول شيئاً من "ذاكرتي مليئة بالأشباح" (2024) لأنيس زواهري، الفائز بجائزة "نجمة الجونة" لأفضل فيلم وثائقي عربي، مناصفة مع الفيلم المصري "رفعت عيني للسما" لندى رياض وأيمن الأمير، في الدورة السابعة (24 أكتوبر/تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". فالمخرج يعود إلى حمص، "مدينتي القديمة" (كما يكتب في بداية الفيلم)، والعودة هادفةٌ إلى منع النسيان من النيل منه، كما ليصنع لنفسه "ذاكرة مما تبقى"، فإذْ بالأشباح "تملأ ذاكرتي".
تقديمٌ يوحي برغبةٍ في التخفيف من قسوة المُصوَّر والمرويّ، أو بمحاولة توضيح رؤيةٍ، يكتشفها زواهري في اشتغاله على وثائقيّه الجديد هذا بين يونيو/حزيران وديسمبر/كانون الأول 2023، تصويراً (حمزة بلوق) وتوليفاً (علي قزويني). جملةٌ تقول كثيراً عن أناسٍ يُقيمون في جحيمٍ وموت، وبين أنقاضٍ وذكريات، ومع ألمٍ مُتوّج بغضب وحزن. جملةٌ تعكس بعض المخرج، وتُشكِّل يوميات أفرادٍ مُصابين بأعطاب نفس وروح، فالمدينة غارقةٌ في خرابٍ غير مكتفٍ بالماديّ، والناس مُقيمون في أمكنتهم/أمكنتهنّ، وبعض الأمكنة غير موجودة، فيهيم هؤلاء في فراغٍ وضياع، أو في متاهاتٍ واختناق.
والرواة (الحكايات المروية مستلّة من ذاكرة سندس زنكاوان والياس هزيم ووسيم توماني وسلوى الأقرع وساندرا خزام وأسامة أيوب ورماء قنجعة، كما في جينيريك النهاية)، إذْ يروون حكاياتهم/حكاياتهنّ، يكتفون بظهور أمام الكاميرا من دون أنْ ينطقوا بكلمةٍ واحدة: جلوسٌ في غرفة. تنقّلٌ بين أكثر من غرفة. سطحُ منزل. حقلٌ يتّسع لمزيدٍ من قهر وألم. يظهرون، فينظرون إلى عدسة الكاميرا مباشرة، أو يُشيحون النظر عنها كلّياً، كأنّ فيها انعكاسٌ لما ينفضّون عن مشاهدته، أو ربما لامبالاة قاتلة، فالمُصاب ينزع منهم/منهنّ الأثمن والأعمق والأجمل، واللاحق هباء ولاشيء. والنظرة هذه، إنْ تحدث، غير متحدّية وغير مستفزِّة وغير مستسلمةٍ وغير معاندة، فتكون عاديّة إلى حدّ مخيف.
في مقابل هؤلاء الرواة، هناك شبابٌ وأولادٌ يعملون ويلعبون ويركضون ويجلسون، فيُطلب منهم ثباتاً أمام الكاميرا، من دون كلامٍ أو حركة، لثوانٍ عدّة. منهم من يُشاغب، فيتحدّث قليلاً، وبعضهم يضحك أيضاً، والابتسامات أكثر. لقطات تُشبه صوراً قديمة، بالأسود والأبيض (بدايات التصوير الفوتوغرافي)، المُلتقطة لأفرادٍ: زوجان، عائلة، أم ورضيعها، مثلاً.
في "ذاكرتي مليئة بالأشباح"، تتحوّل الكاميرا الفوتوغرافية القديمة إلى عدسة توثيقية، والصُور مُلوّنة، والعلاقات بين المُصوَّرين غير عائلية، واللحظة مختلفة تماماً. ففي دمار أبنية وفراغ شوارع، هناك أمكنة تضجّ بحياة يومية، تمتزج فيها تناقضات عيشٍ في مدينةٍ غير سليمةٍ من حربٍ "منتهية".
تصوير مقهى شعبيّ فارغ يترافق وكلامٌ عن تحوّل يعطب حمص، المعروفة سابقاً بضحك ناسها ومرحهم، بينما الحرب تقضي على كلّ ضحكٍ ومرح. كلامٌ عن وحدةٍ وإيجابياتها، قبل أنْ تفقد الوحدة إيجابياتها، يُسمع مع لقطات لرجل جالسٍ لوحده أمام طاولةٍ على رصيف، يدخّن ويشرب القهوة، ومسبحةٌ بيده اليُسرى، وينظر إلى ما لا يُرى خارج الكادر. جولةٌ لأعمى، رفقة صديق أو قريب، في أزقّة مدمّرة، والصوت يروي حكايته مع المُشاهَد، وكيف أنّه منزّه عن قهرٍ لعدم رؤية آثاره، بينما القهر يُصيبه عند عودته إلى منزله بحثاً عن بقايا أثاثٍ وأغراضٍ وملابس (تساؤلات عن ثنائية الرؤية/العمى، وعلاقتها بالحرب والخوف والقلق والألم). شابةٌ تتجوّل في بيتٍ شبه فارغ وشبه مدمَّر، وتسرد مقتل والدتها على أيدي مُراهِقَين يريدان مالاً. شابةٌ أخرى تسبقها بكلامٍ عن رابطٍ متين بأبٍ يُقتل في معركة بين طرفين عدوّين، وعن لاحقٍ ضاغطٍ وقاسٍ وبشع. شابٌ يُخطف شقيقه ثم يُطلق سراحه، وبعد وقتٍ يُقتل، ثم يتوفّى والده، فوالدته.
هذا بعض المرويّ بوطأته الثقيلة، المتشابهة بوطأة خراب مدينةٍ، تحاول عيشاً، كما يحاولون هم/هنّ أيضاً. يستحيل سرد الحكايات كلّها، والأقسى فيها مخبّأ في الظاهر منها. علاقات تندثر، وتساؤلات عن مستقبل، الإجابات عليها مُعلّقة وغامضة، وعودة/خروج مُلتبسان.
لكنّ هذا مُصوَّر بسلاسة بصرية، تتحرّر من تسطيح وتبسيط لشدّة امتلاكها حيوية توثيق ما يُعاش راهناً، وما يُثقل على ذاتٍ من ألم حاصلٍ في ماضٍ قريب. سلاسة تُصنَع برويّةِ باحثٍ في ذاكرة مدينة مكتوبةٍ في حكايات أفرادها، وفي ذكريات أناسٍ مليئة بالأشباح.
البنية الفنية لـ"ذاكرتي مليئة بالأشباح"، الحاصل على تنويه خاص في مسابقة الدورة الـ55 (12 ـ 21 أبريل/نيسان 2024) لمهرجان "رؤى الواقع"، عادية في متتالياتها الحكائيّة، المترافقة وصُور تحصّن الراهن من النسيان (كما في جملة البداية). بنيةٌ تصنع شكلاً بصرياً يُسهِّل مُشاهدة خرابٍ والاستماع إليه، وأحياناً لمسه بعينٍ وأذن. أمّا الإحساس، فلن يختلف كثيراً عمّا يعيشه رواة الحكايات الصعبة.