السينمائيّ هشام العسري... تجربة تلفزيونية تفتقد مشروعاً جماليّاً

15 مايو 2021
هشام العسري في "برليناله 2017": خضوع لأجندة تلفزيونية (فيتّوريو تزونينو تشيلوتّو/ Getty)
+ الخط -

أوّل سؤال يُطرح، بعد مُشاهدة الفيلم التلفزيوني الجديد "عمّي نوفل" (2020)، للمُخرج المغربي هشام العسري (عُرض على شاشة "القناة الأولى" المغربيّة، في 2 مايو/ أيار 2021): ما الذي يدفع مخرجاً سينمائياً مغربياً ناجحاً، كالعسري، إلى العمل التلفزيوني؟ أيتعلّق هذا بتوسيع مساحة الاشتغال في الوسيط الفنيّ الأكثر ترفيهاً في العالم؛ أم أنّ طبيعة المهنة، في بلدٍ متصدّع ومأزوم، تفرض التعامل مع الوسائط البصريّة والاشتغال، والموازنة بين السينما والتلفزيون، للاستمرار في العمل؟

في التاريخ الفني المغربي أسماء إبداعية عدّة انتقلت إلى الشاشة الصغيرة لتوسيع أفق اشتغالها الجمالي، وجعل الصورة السينمائية تعمل، تدريجيّاً في الشاشة الصغيرة نفسها. هؤلاء كسّروا، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، العلاقة المُتصلّبة بين التلفزيون والسينما، بكون الأوّل حاملاً بصريّاً للثاني. هذا النزوح ساهم، بشكل خفيّ، في تثوير الشاشة الصغيرة، على مستوى المواضيع وطرق التعبير عنها ومعالجاتها البصريّة.

بالنسبة إلى العسري، فالتلفزيون ـ رغم رقابته القاهرة ـ يُتيح ضمنياً مساحة جديدة ومُكثّفة، للتعبير والتخييل والتقرّب أكثر من المُشاهد المغربي، بسبب الحظوة الإبستمولوجية، التي تعرفها طبيعة الصورة التلفزيونية، مقارنة بالسينمائية. فالأولى تقتحم منازل الناس وحميميّتهم، وتفرض عليهم منتوجاً بصريّاً تُريده، وبالوسيلة التي تبتغيها. أما الثانية، فرغم شعبيتها لذيوعها وانتشارها وتفاعل الناس معها، يبقى وسيطها نخبوياً، وفي صالات معتمة، لا تتردّد عليها شريحة معيّنة من المجتمع المغربي. بالتالي، يغدو المتن التلفزيوني مشروعاً يُتمِّم السينمائيّ، وهذا نادرٌ في المغرب، فمعظم التجارب المغربيّة الهشّة، التي تتسابق إلى التلفزيون، تكون منطلقاتها مادية أولاً.

الدليل على ذلك، أنّها لم تنجح ـ لا في السينما ولا في التلفزيون ـ في صوغ مشروع فنيّ حقيقي وبلورته، قوامه الرؤية الفنيّة والجماليّة، وأساسه الاشتغال والتجديد، فتبقى التجارب هذه متواضعة وهزيلة، كتابة وتخييلاً.

مفاجأة "عمّي نوفل" لم تكُن سارّة إطلاقاً، فيما يتعلّق بمُتعة المُشاهدة، كعادة هشام العسري في أفلامه السينمائية المذهلة، وقدرته فيها على تكسير القوالب الفنيّة، وأنماط التصوير، وطرق مواضيع حسّاسة وقلقة عن الجسد المغربي، على خلفية تحوّلات البلد، سياسياً واجتماعياً. فمُشاهد "عمّي نوفل" يُصاب بصدمة بصريّة، ولا يُصدّق أنّ مخرجه حقَّق "هُم الكلاب" (2013)، و"البحر من ورائكم" (2014)، و"جوّع كلبك" (2016)، و"ضربة في الراس" (2017). لا شيء في "عمّي نوفل" يؤكّد اللمسة السينمائية المذهلة التي للعسري، والمعروفة في السينما المغربيّة، كتابة وتصويراً ومونتاجاً.

البُعد الترفيهيّ غالبٌ، في غياب مُختلف أشكال التخييل، والركون إلى حوارات شعبية مباشرة وعادية، تستند إلى دغدغة مشاعر الجمهور، مع أنّ هذا يجد خلفيّته المعرفية في البُعد الإنساني لشخصية عمّي نوفل (حميد نجاح). الفيلم كوميدي، تغلب على نبرته الفنيّة الداخلية سخرية الواقع، ومرارة العادات والتقاليد، وصورة الزوجين من دون أولاد في المجتمع المغربي. يزداد الأمر صعوبة لدى المُمثّل، وضرورة إضحاك المُشاهد. لكنّ النصّ مُرتبك، والحوارات هزيلة، لا تفي بالغرض الجمالي المطلوب ليتحقّق شرط المتعة البصريّة والفكرية، المعتادة لدى العسري، خاصّة أنّ أداء هند بن جبارة لسوسن يبدو مفتعلاً، رغم جهدٍ في تقمّص الشخصية، فأسلوبها جامد لا يتغيّر بحسب المواضع الفنيّة والشروط الجماليّة، من مشهد إلى آخر.

النصّ مُرتبك، والحوارات هزيلة، لا تفي بالغرض الجمالي المطلوب ليتحقّق شرط المتعة البصريّة والفكرية، المعتادة لدى العسري

هذا مطبّ تجارب تلفزيونية كثيرة، لا تنغمس سيكولوجياً في الدور، مقارنة مع الشخصيات المألوفة للعسري في السينما، ذات الطبيعة المُركّبة. شخصيات "عمّي نوفل" بسيطة ومتواضعة، ومعروفة بأدائها الفني وتجاربها التلفزيونية المُتعدّدة.

لكنّ المشكلة لا تتمثّل في هذا، بحكم الخلفية الاجتماعية والإنسانية للفيلم، التي تجعل طارق (يحيى الفاندي) وزوجته سوسن يقرّران، بعد التأكّد من عدم قدرتهما على الإنجاب، في تبنّي رجلٍ مُسنّ، ونقله من دار العجزة إلى منزلهما، للإقامة معهما. الضعف ظاهرٌ في هشاشة الكتابة وسطحيّتها وبساطتها في الاستناد إلى أنساق تخييلية مباشرة. انصياع العسري إلى أجندات التلفزيون وأوهامه، في التعامل مع الجمهور المغربي، وتقديم استسهال فني، لا يخدم مهنياً مُخرجاً في حجمه، بل ربما يُؤثّر عليه، وعلى نظرته في فحص الظواهر والقضايا والإشكالات، التي يعمل على تفكيك ميثولوجياتها سينمائياً.

يحصل هذا في وقتٍ ينبغي على اشتغالات العسري أنْ تكون استكمالاً جمالياً لمشروعه السينمائي في الشاشة الصغيرة. إلاّ أنّ ذلك يبدو بعيد المنال في المغرب، أمام إغراء المال والسلطة "الرمزية" و"الترند"، بحيث إنّ كل هذه الأشياء البرّانية، عن أصول العمل الفني وجودته، تُساهم اليوم ضمنياً في تغريب التجارب الإبداعية الحقيقية، وتهميشها، وتأزيم الفيلم التلفزيوني والمسلسلات الدرامية، التي أضحت سطحية، تُكرِّس البلادة والابتذال.

المساهمون