السيمفونية الـ 11 لـ شوستاكوفيتش... أجراس الأحد الدامي

13 مارس 2022
شوستاكوفيتش: أكثريّة سيمفونياتي هي شواهد قبور (Getty)
+ الخط -

وُلدَت أعمالُ الموسيقي السّوفييتي ديميتري شوستاكوفيتش (1906 - 1975)، في جوٍّ سياسيٍّ معجونٍ بأدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة للناس، وهذا لم يكن حصراً على المؤلف أو الشّعب الروسي فقط، بل على العالم بأسره، المُترقّب، كما في أيامنا هذه، حرباً نوويّةً تلوح بوادرها على الأبواب؛ فمن الجليّ بأنّ البشريّة التي كانت تملأُ الكوكبَ قيماً ومقولاتٍ حول الإنسانية والسّلام والحقوق ومناهضة العنصريّة، كانت في مكانٍ آخرَ تملأُ المخازنَ بالذّخائرِ وأسلحة الدّمار الشّامل.


تخليداً لذكرى 1905
لم يأتِ الزّمنُ على ثاراتِ الدّولِ العظمى، فبعدَ قرابة المئة عامٍ على الحربين العالميتين الأولى والثّانية، ها هو الكوكب على أبواب الثّالثة، فها هي روسيا تحتلّ أوكرانيا بترسانةٍ عسكريّةٍ مرعبة، لا طاقةَ للأوكرانيين بها، مُعيدةً إلى الذّاكرة أحداثَ 25  أكتوبر/ تشرين الأول 1956، في ساحةِ البرلمان في بودابست، عندما حمل المجريون السلاح للدفاعِ عن أنفسهم ضدّ الجيش السوفييتي القادم بكامل عَتادهِ لقمعِ الثّورة المجريّةِ، المُطالبة بإنهاءِ الهيمنة السّوفييتية على البلاد.

خوفاً من حربٍ نوويّة، وقفت دولُ العالمِ الأول مندّدةً بالأحداث، مُكتفيةً بِسياسةِ الاحتواء، مثل الحرب الاقتصادية ومختلف أشكال المُقاطعات معَ الاتحاد السّوفييتي. قاوم الثّوار ضَراوةَ الجيش الروسي باستبسال، إلّا أنّ النّتيجة كانت إعداماً دموياً من قبل الجيش الأحمر، أسفر عن 2500 قتيل.

في عام 1955، أعلنَ ديمتري شوستاكوفيتش أنّه قَبِل التّكليف لكتابةِ سيمفونيّة تُخلّد ذكرى أحداث عام 1905، المعروفة بـ"الأحد الدّامي"، التي مهّدت الطّريق للثورةِ البلشفيّة عام 1917، والتي ثبّتت كلاً من لينين وستالين. قُبَيل هذا العمل، شوّهت الصحف سُمعة المُؤلف، كما طُرد من طاقمِ الأساتِذة في المعهد الموسيقي في موسكو ولينينغراد، وحُظر أداء أعماله الموسيقيّة، وذلك من قِبل ستالين ذاته.

عُرِضَ العملُ لأولِ مرّة عام 1957، وحازَ على جائزة لينين؛ فالعمل في ظاهره كان سينمائيّاً دعائيّاً مُستسلماً لأيديولوجيا الاتحاد السّوفييتي، أمّا في المستوى الأعمق، كان إحدى رسائل شوستاكوفيتش لتصويبِ التاريخ الذي تكتبه أجهزة الاستخبارات السّوفييتية، بعدما محت كل ما من شأنه التذكير بالمرحلة القيصريّة، فأطلق المؤلّف العنان لأغان تَحكِي ظُلمَ الطّغاةِ، كل الطّغاة في الماضي والحاضِرِ والمستقبل... كانت هذه الأغاني الشّعبية والثّورية من القرن التاسع عشر، تتحدّث بشغفٍ عن التّحرّر، وكانت معروفةً للجمهورِ السّوفييتيّ في الخمسينيات. 


الموسيقى تروي
الحركة الأولى من السيمفونية، تحمل عنوان "ساحة قصر الشتاء"، وهو المَقرّ الشّتويّ للقيصر نيكولا الثاني (سان بطرسبرغ)، حيث تجمّع المُعتصمون من الطّبقة العُماليّة ليرفعوا التماساتِهم لتَحسين حالهم المعيشي وصونِ حقوقهم. كانوا يهتِفون باسم القيصر الذي رفضَ مقابلتهم وغادر المكان، وسرعان ما تحوّل الاعتصام إلى مجزرة، بعدما أطلق حُرّاس القصر نيران بنادقهم على المُتظاهرين العُزّل.

كتَب شوستاكوفيتش العَمل بِمشهديّة شَبحيّة جليديّة، صوّر فيها ساحةَ القصرِ الشّاسع، الباذخِ الفارغ، ونثرَ نخزاتِ الصّقيع في الأطراف بِنسيجٍ بِنيويّ رمادي مُستوحى من الإنشاد الليتروجي الروسي؛ فاسترخت الطّقسيّة بوقعِها المُتثاقلِ على كاملِ الحركة، مع هَمسات الطّبل في الخلفيّة (الراوي)، تُنبئُ بِفألٍ سيئ وشيك.

هكذا، رسم شوستاكوفيتش بدقّةٍ التّفاصيل الماورائيّة للمشهد، ومن ثمّ أدخل الأبطال؛ أولاً الحرس المدجّجين المُتأهبينَ (أصوات الأبواق)، ومن ثمّ تَتهادى أولى الأغاني الشّعبية الثّورية (أنصت)، والتي كُتبت في الفترة القَيصريّة، وكانت لا تزال معروفةً لدى النّاس في تلك الفترة، ثمّ أغنية أخرى (الأسير)، وبذلك أدخَل المؤلّفُ باقي أبطال المشهد، الذين في الظّاهرِ كانوا ضحايا احتجاجات 1905، لكنّ المزاج الذي تسلّل إلى الجمهور خلسةً قال غير ذلك، لقد زرعَ فيهم يقيناً بأنّهم أبطالُ شوستاكوفيتش في هذه الأوبرا المغناة بأصوات الماضي الحاضر.

في الحركة الثّانية، "التاسع من كانون الثاني"، تبدأُ الوتريات بمُرافقةٍ تُوحي بأن الحَشد بَدأ بالتحرك، بينما النّفخيات تعزف لحن أغنيةٍ ثوريّةٍ أخرى "ثِقَلُنا خَطْوُنَا"، يتفاعل كل من المُرافقة واللّحن للوصول إلى الذّروة الأولى التي تُمثّل المطالبَ والهُتافاتِ التي تَرتَفِعُ في السّاحة، لكن دونما استجابة، ثمّ تأتي أغنية "أظهِروا رؤوسَكم"، وهُنا يُصبح العملُ أكثرَ إيقاعيةٍ ليدلَ على تدافُعِ الحَشد كالأمواج عبرَ الأوركسترا التي تَتفجّرُ فيها الأصواتُ مؤدّيةً الأغنيتين آنِفتَي الذِكر في الوقت ذاتِه "هتاف الحشود"، ما يضعُ الحضور في حالةِ ضَغطٍ وترقبٍ، لكن أيضاً لا إجابة، سُكونٌ مطبقٌ تقطعُه طلقاتُ الطّبول، ومن ثمّ يَظهر الفوغ الذي كَتبهُ المُؤلّف ليُصوّر حالةَ الفزعِ ومحاولاتِ الهَرب اليَائسة.

بعدها، نَسمعُ صوتَ الترومبون يُعزّزُ التّصعيدَ المُرعبَ ليَعلو إيقاعَ المدفعيّة متوحّشةً تُجهزُ على الضّحايا، وهنا شوستاكوفيتش يُعطي المنبر لأصوات الضّحايا تَعلو على علوّ البنادق مُعيداً لَحنَ "أظهروا رؤوسَكم" بطاقةٍ أوركستراليةٍ أكبر. نستطيعُ تَخيُّل الجدران والمقاعدُ تئنّ من حولِ وتحتِ الجمهور من هول الضّخّ الصّوتي الأوركسترالي المُستمر، والذي ينقطع فجأةً تاركاً الجمهور أمامَ فراغٍ أجوفَ شَبحيّ وأجساد لا حياة فيها، عبر أوركسترا تَتمَلملُ مَفجُوعة.

الحركة الثالثة، "ذاكرة أبديّة"، بطيئَة بُكائيّة على لَحن أغنيةٍ ثوريّةٍ معروفة "تَسقُطونَ كَضحايا". أسفٌ على الضّحايا الذين سَقطوا، وحسرةٌ على حياتِهم المليئَةِ بالتّعب، استخدم المُؤلّفُ آلة الفيولا، وهي الآلة الأكثرَ روحانيّة ومُلاءَمةً بين عائلة الكمان، للتأبينِ وللحزنِ الجليل القبريّ إن صحّ التّعبير. تعيد الوتريّاتُ اللَحنَ على طولِ الحركة التي تتفاوتُ فيها الانفعالاتُ ما بينَ التّسليمِ والغَضبْ على لحن "أظهروا رؤوسَكم"، حتّى تفيضَ الأوركسترا بالذّروةِ الأخيرةِ ويَظهرُ صَوت الطّبل الخافتِ في الحركة الأولى (الرّاوي) لكن بِصوتٍ أعلى مُرافقا الوتريات الغاضبة ومن ثمّ الباكيةِ الخَافتة.

في الحركة الرّابعة، "جرسُ الإنذار"، تبدأ بالآلات النّحاسيّة على لحنِ أغنيةِ "عارٌ عليكُم طُغيَانَكُم"، وأُغنية "زوابع الخطر"، التي غنّاها البولنديّون أثناءَ مقاومةِ الغزوِ الرّوسيّ عام 1863، وأُغنية "الشّرَر". تَحتوي هذه الحركة على أجزاء من الحَركاتِ السّابقة، وتُعدُّ ذُروة السّيمفونيّة كَكلّ، حيثُ تعصفُ الأوركسترا هاتفةً بالعار على الطّغاة المجرمين، وتفيضُ بالأغَاني الشّعبيّة لتَنطِق أكثرَ تَشخيصاً ما يريدُ أن يقوله المؤلّف: "تُوفي الكثيرُ من النّاس ودُفنوا في أماكنَ لا يعرفُها أحد، أكثريّةُ سيمفونياتي هيَ شواهدُ قبور، المُوسيقى فقط تَستطيعُ فعلَ ذلك من أجلهم".

تغلِبُ الإيقاعيّةُ على هذهِ الحركة التي تَتطوّر بشكلٍ مطّردٍ، حتّى تتَجسّد الذّروة الأولى بأصواتِ الأغاني وهتافِ المُتظاهرين أو الثوار بالمَعنى الأعمّ، مُقابل البَنادق والمِدفعيّة التي تُنهي الذّروة ليَقفَ الجمهورُ مرّةً أخرى أمامَ ساحةِ القصرِ الفارِغةِ وموسيقى دخولِ الحركةِ الأولى مرافقةً صَوتَ الهورن الإنكليزي يَرثي، يُوقظُ الباص كلارينيت الغاضب مَع الباصون والطّبل الأوركسترا من جديد للذروةِ الأخِيرة.

طَرقات الطّبل تَتكرّر لتُكسر جَليد الخوف والرّعب الذي لفّ القُلوبَ والذي عَملت مُمارساتُ الطّغاةِ وسياساتِهم على تَكريسِه، حتّى أصواتُ النّفخيات معدنيّةً صَقيلةً جَزلَة جنباً إلى جنب مع غَضب الوتريات.

كان شوستاكوفيتش يَصفعُ الجمهور محاولاً إخراجَهُ من هَولِ الصّدمة، وينهضَ به ليُنهي هذهِ الملحمة بما يليقُ بتضحياتِ القتلى، وما تَستحقّه جرائم الطّغاة، يُعطي الشّعبَ فرصةَ البَوح والصُراخ، يُلبسه ثوب المُحارب وينفخُ فيهِ روحَ التّحدي ليطرِقَ أجراسَ الإنذارِ والتّذكيرِ بالنّهاية التي لا شكَ في قُدومِها، واليومَ الذي سيَزُولُ فيهِ أيّ طَاغيةٍ ويَبقى الشّعبُ يَكتب الأغَاني لتَروي قِصص زوالِ الطّغاة بعد جَبروتِهم.

أجراسُ شوستاكوفيتش التي استَخدَمَها فِعلياً في نِهايةِ السّيمفونية 11، رسائلُ عارٍ لا تزالُ تَهتزّ حتّى يومنا هذا وستبقى ترنّ طالما جِيلاً بعدَ جيلٍ يكتبُ أبناءَ الجنسِ البشريّ تاريخَهم بدماءِ الضّحايا على جُدران المُدن المُدمّرة، وبِحكايا المُهجّرينَ ممّن هَرَست مُجَنزرات الحُروب ذكرياتهم وأحلامهم.

المساهمون