السنوار وحرب الصور

21 أكتوبر 2024
السنوار في مدينة غزة، 20 مايو 2021 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني الفلسطينيون من تنميط سلبي في الإعلام، حيث يُصوَّرون كفلاحين أو لاجئين أو إرهابيين، بينما يُظهر الإسرائيليون كحداثيين. يمتد هذا التنميط إلى المحيط العربي، مع تركيز سلبي على الفلسطينيين من قطاع غزة.
- الكاتب من غزة يصف تجربته مع التنميط السلبي، حيث يشعر بأنه محاصر في صورة نمطية. يواجه الفلسطينيون سخرية وتنميطاً من العرب، مما يزيد من وطأة التنميط عليهم.
- ياسر عرفات ويحيى السنوار رمزان قلبا الصورة النمطية للفلسطينيين، حيث سعى عرفات لتقديم صورة جديدة للمقاوم الفلسطيني، مما ساهم في تغيير الصورة النمطية إلى حد ما.

غالباً ما نُمِّط الفلسطيني في الصور (السينما، والدراما، والوثائقيات، والتغطيات الإخبارية التلفزيونية)، ما جعله يُمنى بالهزيمة غالباً في أي مواجهة ذات صلة بالصورة التي كان هو "موضوعها" لا "منتجها"؛ فالإسرائيلي (في الصورة) غربي عموماً وحداثي، يعيش في قلب العصر ويساهم في إنجازاته. مشاغله تتعلق بالفنون والسينما والأفكار الكبرى، بينما الفلسطيني فلّاح، لاجئ، إرهابي. يلف كوفيته حول عنقه ويقتل الآخرين، وغالباً ما يُقدّم هؤلاء باعتبارهم أبرياء، وشخوصاً بعينهم، بمعنى لهم زوجات ينتظرنهم، وأطفال "جميلون" بشعور ناعمة تتطاير مع الريح وهم على أكتاف آبائهم.
ليس هذا هو شأن صورة الفلسطيني المُنمّطة في الغرب فقط، بل في محيطهم العربي أيضاً، إذ نُمّط الفلسطيني بصور أسوأ، ما انحدر به إلى درجة الحيوان أحياناً، وحدث هذا منهجياً؛ إذ يفرّق بين الفلسطينيين أنفسهم، فهناك فلسطينو الخارج (الدياسبورا)، وفلسطينيو الـ1948، وفلسطينيو الضفة الغربية، وأخيراً فلسطينيو قطاع غزة. ووضع الأخيرين هو الأسوأ على الإطلاق، وهم في عمومهم "غزاة"، بائعو أرض وكلام، إرهابيون كامنون ومحتملون، بلا ولاء ولا يؤمن لهم، وبتعبيرات محض محلية فإنهم "أكّالون نكّارون"، ودع عنك الصورة التي ينتجونها خلال ثوراتهم ويتبناها أبناء المنطقة بحماس، فالصورة النمطية الثاوية في اللاوعي تظل أقوى، وسرعان ما تطل برأسها فور انتهاء موجات الإعجاب بالفلسطينيين والتعاطف معهم.
كاتب هذا المقال يتحدر من قطاع غزة رغم أنه لا يعيش هناك، ولكنه رغم ذلك حُشر في صورة نمطية تخص الغزّيين في المنطقة بأسرها، ما جهله يشعر دائماً في أعماقه بأنه وُلِد بذنب ربما من دون أن يعلم، خلال تعامله مع أي مؤسسة عربية رسمية، أو تواصل اجتماعي في محيطه، وكان يصادف أن يصدر كلامٌ أمامه وبوجوده، قاس وفوقيّ استعلائي عنهم (الغزّيين) من قبل مواطنيه الفلسطينيين أنفسهم، أو ذوي الأصول الفلسطينية، نظراً إلى إقامة كاتب المقال في أكثر من دولة عربية.
وما ينطبق على الغزّي كان ينطبق بدرجة أقل على بقية الفلسطينيين في المنطقة العربية، وثمة تلك السخرية التي تصدر عن فقراء عرب مثلهم، كأن يُنادى الفلسطيني بـ"الزلمة" للتفكّه، أو أبو العبد للغرض ذاته، من عرب لا يتمتعون بأي من حقوق البشر أصلاً في بلدانهم، ويرزحون تحت أسوأ أنظمة يمكن تخيّلها عبر التاريخ.
نُمّط الآخرون بالطبع، فالسوداني زول ونؤوم، والعراقي عدواني وتتناثر بقايا الطعام على المائدة أمامه عندما يأكل، وهكذا، لكن وطأة تنميط الفلسطيني كانت أثقل، فهو تحت الاحتلال حتى لو ولد في فيينا، وعليه أن يعرف أنه "أبو العبد"، بالكوفية المرقطة، وتحت قميصه ثمة رشّاش قد يُخرجه فجأة ويبدأ بإطلاق النار على المتسوقين في المطارات، أو في مولات المدن الكبرى، ثم إن عليه ألا ينسى عُدّته وفولكلوره. هل يمكنك أن تجلب عائلتك وتدبكوا لنا في باحة البيت المناسبة لهذه الأشياء؟ أو تقلب طنجرة المقلوبة أمامنا لنضحك من جهة، ونتأكد من جهة أخرى أنك مطابق لصورتك التي ربما أنتجتها أنت بنفسك، وساهم الآخرون بتكريسها عنك بعد تكييفها بما يجعلهم أفضل منك، وأكثر تحضراً ورقياً، فماذا يفعل هذا "الفلاح" في عالمنا نحن "الأسياد" الذين يعيش الفلسطينيون في بلادهم كالفئران والزواحف في مخيمات الصفيح ووحل الشتاء؟
اثنان قلبا الصورة رأساً على عقب: ياسر عرفات، ويحيى السنوار، لا بشخصيهما بل بما يمثّلان.
في سبعينيات القرن الماضي، ذروة صعود المقاومة الفلسطينية المعاصرة، كان على عرفات أن يقلب الصورة، أن ينتج صورة أخرى سرعان ما استفزّت الآخرين (إسرائيل ودولاً عربية نُخباً ومؤسسات)، فسعوا إلى حشره مجدداً في صورهم النمطية التي أنتجوها عنه وطوّروها داخل الإطار نفسه، باعتباره "أزعر الحارة" بعد أن كان مجرد فلاح وسمسار يبيع أرضه ليتسوّل لاحقاً في بلاد الآخرين.
في تلك الحقبة، جَهِد الفلسطيني للخروج من أسر التنميط، أصبح فدائياً يحمل السلاح على كتفه لاستعادة أرضه، على خلاف صورته التي نُمطّت باعتبارها من باعها. ببدلة الكاكي العسكرية، خلافاً لصورته بالشروال يحرك المسبحة وهو يدبك. يعرف العالم ويخاطبه بلغته (إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وغسان كنفاني وآخرون يمكن اعتبارهم إنتاج حقبة عرفات حتى لو اختلفوا معه).

المساهمون