استمع إلى الملخص
- المواجهة كانت صدفة، حيث رفض السنوار منح نتنياهو "صورة النصر"، وأرسل رسالة قوية لأعدائه، مفضلاً الموت في غزة التي عاش فيها لاجئاً، ثم أسيراً، ثم مقاتلاً، ثم قائداً.
- أصبحت صورة السنوار وهو يرمي العصا أيقونية، حيث أظهرت أن الحطام يمكن أن يكون سلاحاً، وأثارت صدمة بدلاً من النصر المتوقع، مؤكدة أن الحكاية لم تنته بعد.
دخلت المسيّرة البناء المهدم في رفح. وجدت "خصمها" جالساً على كنبة، معفّراً بالتراب، جريحاً. ظنّ قائد المسيّرة أن من يراه وراء الشاشة ميت. لكنه تحرّك، حمل عصاً، ورماها في وجّه المسيرة، تلك التي لا عيون لها. حركة بسيطة قبل الموت، أن ترمي ما تقع عليه يدك في وجه عدوك الجبان، الذي يختبئ وراء الشاشة.
رمى يحيى السنوار العصا قبل أن يقتله جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد اشتباك نجا منه، فكانت المسيّرة، ثم الدبابة. رمى عصا كآخر حركة مقاومة في وجه ماكينة حرب تختزلها المسيّرة. عين القاتل الخائف وراء الشاشة، والعصا هنا آخر حركة في جسد محكوم بالموت. عوضاً عن الاختباء، أو الهرب، أو رفع أصابع النصر، تمثّلت آخر الأنفاس برمية، يقيناً بأن آخر عصب للحياة موجه ضد الاحتلال.
عصا يحيى، إن صحت تسميتها كذلك، تختزل الهوة التكنولوجية الهائلة بين من يقاوم وماكينة قتل تضرب من الأرض والسماء وتعبر الجدران بحثاً عن غريمها، ذاك الذي نراه وحيداً، التقف عصاه، ورماها، فلا هي أضحت أفعى، ولا شقّت البحر، بل كانت درساً لكل من يشاهد، في غزة نقاتل، ولو بالعصى حتى آخر رمق.
في التسجيل الأخير الذي يظهر فيه يحيى السنوار حياً، لم يكن حينها قاتله يعرف هويته، إذ حدث الأمر كله بـ"الصدفة". صدفة كشفت معركة أخيرة بين صاحب أرض ومحتل. واحد من بين الحطام يقاتل حتى آخر رمق، وآخر يقتل ويدمّر... وبعد كل هذا الدمار لم يجد غايته، وترك الأمر للمصادفة، تلك التي وجّه فيها السنوار رسالة أخيرة لـ"أعدائه". لم يمنح نتنياهو "صورة النصر" التي يريدها، بل ضرب كل ما كان يتخيله نتنياهو بـ"عصا"، جالساً بين حطام المنازل.
ربما هي الميتة ذاتها التي لطالما تحدث عنها يحيى السنوار الذي لم يرد أن يموت بفيروس كورونا أو على سريره، بل في القطاع الذي لم يغادره، وعاش فيه لاجئاً، ثم أسيراً، ثم مقاتلاً، ثم قائداً. وفي الصورة ذاتها يظهر مسدسه الغلوك، الهدية التي تلقاها عام 2018 بعد عملية ناجحة ضد جنود الاحتلال. لكن، في لحظة النهاية، استخدم العصا. قطعة من حطام منزل أسرة غزيّة ربما نزحت أو قتل أفرادها، تمكنت ولو بعصا أن تهشّ بها على مسيّرة تبحث عمن ستقتله.
عصا، خشبة، غرض مبتذل، استُخدم برمية لم تصب. رغم ذلك، فهي علامة على الاستعداد للقتال بأي شيء. وهنا تأتي مفارقة التي وردت في قصيدة محمود درويش، "مديح الظل العالي"، التي كتبها بعد خروج منظمة التحرير الوطني الفلسطيني من بيروت في عام 1982: "سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك... لا مفرّ". السنوار حرم الاحتلال حتى في موته "إخراج" ميتة له تتسق مع حكاية نتنياهو، فلا كان في النفق، ولا كان بين الأسرى، بل تحت ضوء الشمس يظلله الغبار والحطام.
نحن أمام صورة أيقونيّة جديدة، "ديكورها" حطام وذكريات دمرها الاحتلال الإسرائيلي. في منتصفها وعلى كنبة تحمل ذكريات من قتلوا، جلس السنوار، لا منزل في غزة يمكن فيه لأحدهم أن يرتاح بين الحطام، بل ويلتقط منه خشبة، عصا تتحول إلى أداة وحكاية، صورة أيقونية تشير إلى أن الحطام نفسه يمكن أن يكون سلاحاً ما دام هناك مُقاتل موجود بين كل هذا الحطام.
حتى إن الإعلام الغربي وجّه خطابه إلى نتنياهو، في إشارة إلى أن الأخير كان يعتقد أنه بنشر الفيديو سيحقق نصراً ما، لكن ما حصل كان العكس؛ إذ إن هناك صدمة لصورة السنوار وهو يرمي العصا في وجه المسيّرة.
وُصف السنوار بالتراجيديّ، هذا الذي عادة يعيش أحداثاً لا تنتمي إلى الزمن اليومي والطبيعي. وطبعاً نحن في زمن إبادة، زمن استثنائي. لكن، في حياة كل بطل تراجيديّ، هناك خيار شديد الابتذال، هو ما يكسبه هذه الصفة. في حالة أوديب، كان التباس مفترق الطرق عليه. في حالة هاملت، تصديقه لوجود شبح أبيه. وفي حالة السنوار، كان خيار التقاط العصا، تلك التي وجدها أمامه. لا وظيفة أخرى لها سوى أنها جزء من الخراب، لكن بمجرد أن التقطها، وتحولت إلى "غرض"، اكتسبت قيمتها الرمزية، وأصبحت علامة على أن الحكاية لم تنته بعد.