"السقا مات": الموت بطلاً

22 اغسطس 2023
المخرج يوسف شاهين (فيسبوك)
+ الخط -

ينفرد فيلم "السقا مات" (1977)، في كونه الوحيد في تاريخ السينما العربية الذي يشكّل الموت ثيمته الكبرى والوحيدة، ما يفسّر تردد شركات الإنتاج في مطلع السبعينيات في إنتاج فيلم يبعث على الكآبة، وانتظار مخرجه صلاح أبو سيف نحو سبع سنوات قبل يتحمس يوسف شاهين لإنتاجه بعد قراءته الرواية.
كتب يوسف السباعي "السقا مات" عام 1952، ويذهب كثيرون إلى أنها أفضل أعماله بالإضافة إلى "إني راحلة" و"ردّ قلبي"، وهي روايات تنزع إلى الرومانسية (كثيرها ساذج)، والطرافة، وتتوسع في الوصف. وكعادة بعض روايات تلك الحقبة فإنها تقع في فخ الإقحامات الخارجية، وبعضها أيديولوجي، حيث يتحدث الكاتب بلغته هو ووعيه على لسان أبطاله، فإذا الطفل سيد في "السقا مات" يبدو مختبراً لأفكار وهواجس الروائي نفسه إزاء الموت بل والوجود نفسه.
ما قام به أبو سيف في الفيلم بدءاً هو تحرير الرواية من راويها، فقد حوّلها من رواية تسرد سيرة الطفل أولاً ثم أبيه وضيفه إلى فيلم يسرد قصة الأب والضيف، وبهذا تخلّص من فائض ثرثرة روائية لا تحتملها السينما، وفي القلب من ذلك فكرة الموت التي تشكل هاجساً مقيماً وثقيلاً لدى الأب، وفكرة يتم التعامل معها بخفة من الضيف الذي كان عمله الرئيسي مواكبة الجنازات.
هذان الخطان المتوازيان نجح أبو سيف في التقاطهما من الرواية وتحريرهما من الشروحات والاستفاضات السردية، وجعلهما بؤرة فيلمه الذي أدى فيه فريد شوقي دور عمره.
تدور أحداث الفيلم في حي الحسينية القاهري في عشرينيات القرن الماضي، وتتمحور حول المعلم شوشة الذي يزود أهالي الحي بالمياه. ودلالياً فإن من يسقي هو من يحافظ على استمرار الحياة أو ذكراها في حالة شوشة. إنه يروي شجرة تمر حنة التي زرعتها زوجته المتوفاة في حديقة السراي حيث كانت تعمل خادمة، ويحافظ على عادته هذه لأنه لا يريد أن يستسلم لفكرة موتها، فلتحي إذن ذكراها من خلال الشجرة نفسها.
في مقابل خوفه من الموت الذي اختطف زوجته، هناك شحاتة أفندي الذي يتعرف إليه بالصدفة، وهو مجدّف كبير، شهواني، محب للحياة ومقبل عليها مهما كان الثمن. ويحدث أن يكون عمله هو مواكبة الجنازات، أو من يوصفون في الرواية بالمطيباتية الذين يرافقون نقل الموتى إلى المقابر، ويرددون مقولات دينية جاهزة، لا يؤمن بها شحاتة من الأساس.
ما بين المعلم شوشة، المتقشف، المنسحب من الحياة، الخائف من الموت، ونقيضه شحاتة أفندي، ينجح أبو سيف في إنتاج فيلم أعلى من الرواية المأخوذ عنها، فيبدّل في مصائر بعض الشخصيات، ويغيّر نهاية الرواية، ليخلّصها من دائرة الموت التي تبدو محكمة أكثر مما يجب في الرواية، فلا يموت البطل شوشة في الفيلم على خلاف مصيره في الرواية التي كان راويها يريد أن يخلص إلى نتيجة "وجودية" قاتمة، وهو أنه لا فكاك ولا منجاة من الموت، وتلك خلاصة تصح فلسفياً لكنها تتعارض مع الحياة نفسها التي يتشكل معناها الأكبر في مقاومة الموت رغم حتميته.
يقع أبو سيف في بعض المطبات التي يستغرب من يشاهد الفيلم في أيامنا هذه من أن نقاداً مصريين كبارا امتدحوا بعض عملياته في المونتاج، مثل توالي انتقالات الكاميرا بين صاحبة المسمط وهي تقبض على شحاتة أفندي من ياقة قميصه، وبين من يسنّ السكاكين ويقطّع رؤوس الخراف وقوائمها، باعتبارها لغة سينمائية! رغم أنها تقنية ساذجة لا ترقى إلى مفهوم المعادل الموضوعي، الأكثر ذكاء في جعل الأشياء خارج دائرة الفعل الحقيقية تتمثل جوهر معناه ويجري فيها وعليها، ما يرقى إلى الفعل الرمزي المتكامل والمعبّر عما يجيش في صدور الأبطال أو الشعراء أو الفنانين في لحظات شعورية مكثفة ودالّة. لكن أبو سيف رغم ذلك ينجح في التعامل مع كآبة الموت ورهبته من خلال لعبه على التناقض بين الشخصيتين اللتين أدارهما (الخائف من الموت والمستخف به)، ومن المفارقة أن يموت المقبل على الحياة قبل غزوته الكبرى، وأقصد النوم مع بائعة الهوى، كأن غدر الموت يأتي من حيث لا يحتسب محب الحياة، والذي كان يعرف ذلك نظرياً قبل أن يموت، لتنطبق عليه ومن خلاله مقولاته التي هجا فيها الموت وأبدع.

المساهمون