استمع إلى الملخص
- **ردود فعل الفنانين وشركات الموسيقى**: تيفت ميريت وصفت الأغنية بالسرقة، وأعرب فنانون آخرون عن قلقهم من تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع. شركات التسجيل رفعت دعاوى قضائية لحماية حقوق الملكية الفكرية.
- **التشريعات الأوروبية وتنظيم الذكاء الاصطناعي**: الاتحاد الأوروبي صادق على "AI Act" لضمان امتثال الشركات لقوانين حقوق الملكية الفكرية، مع ترحيب حذر بفعاليتها.
"نستطيع قطع كل الطرق الفرعية إن أردنا، نشاهدُ الحقول والسماء تتبدّل وتتأرجح يا عزيزي. نترك الريح تقودنا من دون وجهة، كل القصص التي أحكيها مرّات؛ ما هي سوى تأملات". بصوت حاد كما لو أتى صادراً عن الحنجرة، وبالاستعانة ببعض المؤثرات الغنائية الأكثر شيوعاً في لون موسيقى الريف الأميركي، الكونتري، مثل صفير "النبرة الحادة" Falsetto تُسمَع النجمة الأميركية تيفت ميريت (Tift Merritt) وهي تغني تلك الأبيات، يرافقها الدولاب الهارموني المتكرر Riffs المعهود على الغيتار الأكوستي، مع إيقاع الدرامز متوسط السرعة وبعض من المؤثرات الإلكترونية ترسم للأذن في الخلفية مشهدية سمعية شاعرية.
يبقى أن الأغنية أعلاه لم تكتبها الفنانة ولم تغنّها قط، وإنما بثّها موفّر خدمة توليد الأغاني بتقنية الذكاء الاصطناعي المعروف باسمه التجاري أوديو (Udio) باعتباره جزءاً من اختبار أجراه صحافي يعمل مع وكالة رويترز للأنباء، بأن لقّن التطبيق بواسطة الكيبورد وصفاً لغوياً مستلهماً من أغنية لميريت، كانت قد راجت أخيراً على سبوتيفاي بعنوان Travelling Alone، ليولّد الحاسوب مقطعاً غنائياً لمدة 35 ثانية، اختار له عنوان Holy Grounds.
أتى الاختبار جزءاً من مقال نُشر على الموقع الإلكتروني للوكالة أول شهر أغسطس/آب الحالي، يرصد أبعاد المعضلة القانونية وتبعاتها التي باتت تؤرق كلاً من الفنانين وشركات تسجيل الموسيقى إزاء مسألة حقوق الإنتاج الفكري والفنّي، وذلك غداة انبلاج واقع تكنولوجي جديد فرضه الذكاء الاصطناعي ونماذجه التوليدية البكر، سواء تلك التي تُولّد النصوص اللغوية أو الصور الثابتة والمتحركة، وفي السياق ههنا، الأغاني.
هكذا، بات في مقدور أي مستخدم استحضار نجوم غناء عالميين، بإعادة تركيبٍ رقميٍّ لأصواتهم وأساليب عزفهم وغنائهم وبصمة أغانيهم الخاصة من خلال التطبيقات المتوفرة مشاعاً على الإنترنت، فضلاً عن توليد نصوص كلماتها وأجوائها السمعية والبصرية، بدقة تبدو في كثير من الأحيان مطابقة للأصل تطابقاً يمكن أن يخدع الكثيرين.
إلا أن تيفت ميريت كان لها رأي مخالف؛ إذ صرّحت لـ"رويترز" بتحدٍّ نابع عن أنا الفنان معلّقةً عقب سماعها النسخة الشبيهة بأغنيتها Travelling Alone التي ولّدها تطبيق أوديو، بأن المقطع المستحضر حاسوبياً "لم يصل ولا إلى أي مستوى قد يدنو من المعايير الفنية والأدائية التي تستند إليها أغانيها"، واصفةً الأغنية الاصطناعية Holy Grounds بأنها ليست سوى "سرقة".
مع ذلك، تبقى عيون المراقبين على مسار التطور التقني المتسارع الذي تسير عليه تلك التكنولوجيا الثورية، وما إن كانت ستشكّل عاجلاً أم آجلاً تهديداً مباشراً لإرث العديد من الفنانين حول العالم، لن يوفر أحداً منهم، لا من رحل وحفظه أرشيف التاريخ وسجّلته الذاكرة الجمعية، ولا من لا يزال حيّاً يرزق، يقدم العروض ويُصدر الألبومات.
من هنا، كتبت كوكبة من النجوم ومن بينهم ميريت، إبريل/نيسان الماضي، ضمّت أسماءً من الجيل الجديد مثل بيلي آيليش ونيكي ميناج، ومخضرمين من أمثال ستيفي وندر، رسالة مفتوحة، أعربوا من خلالها عن قلقهم وخوفهم من أن إطلاق يد شركات الذكاء الاصطناعي لتدريب مولّداتها على نتاجاتهم الفنية من شأنه أن "يخرّب الإبداع" ويُحيِّد العنصر البشري فيه.
كانت كُبريات علامات التسجيل الموسيقية العالمية قد انضمت بدورها إلى الحملة. ورفع عدد منها دعاوى قضائية ضد التطبيقين الأكثر تداولاً، سونو وأوديو، استناداً إلى قوانين حماية الملكية الفكرية والإبداعية المتوفرة. على صعيد مواز، كان من الطبيعي أن تتم المطالبة أيضاً بتغيير التشريعات والقوانين الحالية سواء على مستوى الدول أو المنظومات الإقليمية والدولية، بقصد الاستجابة إلى المتغيرات التكنولوجية.
كان الاتحاد الأوروبي أول من تصدّى لتلك القضية، فصادق برلمانه في شهر مارس/آذار الماضي على آليات تشريعية تحت اسم AI Act، تنظم عمل الشركات الموفّرة لميزة الذكاء الاصطناعي لكي تضمن من الناحية القانونية امتثال الشركات لقانون الحقوق الملكية الفكرية الأوروبي، وذلك من خلال الالتزام بالشفافية حيال جميع المعلومات والبيانات الدالّة على المصادر الأصلية التي تدرّبت عليها النماذج التوليدية. المأمول أن تؤدي مثل تلك الآليات، إن جرى تطبيقها بصورة فعالة إلى تقييد المواد السمعية المولّدة صناعياً ضمن نطاق "المنتجات المقلّدة"، فلا تسمح بأن تطرح منتجاً قابلاً للتسويق والاستهلاك يكون بديلاً عن المنتوجات السمعية الأصلية.
لئن أثار القانون الأوروبي الجديد حماسة شركات الإنتاج الفني ولقي ترحيباً واسعاً لدى أوساط المشتغلين بالصناعة الموسيقية بوصفه خطوة أولى ونموذجية يُمكن أن تُعمم على الفضاء المعولم، يبقى رد الفعل حيال نجاعته بحدود التفاؤل الحذر. على الأخص إذا ما قورن بتجارب سابقة، عندما أسند إلى كل دولة من دول الاتحاد تطبيق التشريع على حدة، كما حدث في أعقاب إصدار التوجيه المتعلق بحقوق الملكية سنة 2019. حينها، وعلى الرغم من أن الموافقة عليه قد تمت بالإجماع، إلا أن مديات تطبيقه تراوحت بتفاوت بين دولة أوروبية وأخرى.
في معرض التسارع غير المسبوق في تطور الذكاء الاصطناعي وتعدد تطبيقاته وتفرّع استخداماته في كل مجالات الحياة، يصعب استشراف مستقبل التجربة الموسيقية، سواء في الإبداع أو في الاستماع. بالقياس إلى عهود سابقة جرى خلالها استبدال العنصر البشري بالآلة ومن ثمّ الحاسوب، واليوم الذكاء الاصطناعي، لم تسفر جهود المقاومة والممانعة عن وقف تام لزحف التكنولوجيا المطّرد والمتزايد على المجالات الموسيقية التي لطالما ظلّت في الماضي حكراً على البشر، كاستبدال العزف الحيّ على الكيبورد ببرمجة آلة السنثسايزر الكهربائية، وحلول الإيقاع الرقمي متناهي الدقّة في معظم الأغاني الحديثة، خصوصاً الاستهلاكية منها محلّ عازف الدرامز الماهر.
لعله فقط حضور الإنسان في العروض الحيّة، بصوته وطلّته وبعزفه على آلته ما لن يمكن استبداله؛ إذ إن أثر ذلك الحضور يتجاوز الإبداع والإبهار إلى فتح قنوات آنية عاطفية وفكرية تصل بينه وبين المتلقّي، ومن ثم تخلق مجالاً بين - ذاتيٍّ عبر النغمة والكلمة يقوم على التعاطف ووحدة الحال الإنسانية، لأجل السموّ بها إلى ما عساها أحسن حالاً، وتلك تظلّ مهمّة الفنان الجوهرية.