في فيلمها الوثائقي "الحلبي" تسرد المخرجة الفلسطينية رنا أبو شخيدم حكايات أسرتها عمّا قبل النكبة، وتنقّل أفرادها بين حلب ويافا التي هُجّروا منها إلى الخليل قسراً في عام 1948. حكايات عن جدتها التي أنجبت 14 بنتاً وابناً واحداً، ومن ثم رحيل جدها "الجنتل"، كما تصفه الجدّة، وصولاً إلى دخول الأخيرة المستشفى، ونجاح عملية في القلب لها، لتبدأ صفحة جديدة مع الحياة.
يتناول فيلم أبو شخيدم "الحلبية" قصة جدتها، نديرة طهبوب. لا تزال الجدّة التي يعرفها الجميع باسم "الحلبية" تتذكر المسرحية التي قدمتها حين كانت في الصف الثاني الإعدادي في إحدى مدارس الخليل. كان العرض أدائياً راقصاً، عن نص أعدّه بتصرف مصطفى لطفي المنفلوطي، ليشكل خلاصة رواية تمثيلية للكاتب الفرنسي فرانسوا كوبيه، تحت عنوان "في سبيل التاج". في حين علقت المخرجة، وهي الراوية في الفيلم، حين تطلب الأمر ذلك، بأنها لو فكرت في تقديم المسرحية نفسها، اليوم، فإن المدرسة لن توافق على تمرير العرض، وبأنه لن يسمح لها بارتداء فستان أو الرقص على المسرح. ولو حدث وتم العرض، فإن أحداً لن يصفق لها، وليس مستبعداً أن تكون مثاراً ليس فقط للاستهجان، بل للهجوم أيضاً.
وتحدثت "الحلبية" عن رفضها القاطع للهجرة من الخليل إلى عمّان ما بعد احتلال الضفة الغربية في عام 1967، قبل أن تتحدث عن تعدد ولاداتها للبنات، وكيف كانت مثار تنمّر، في حين كانت والدة المخرجة هي السابعة، والتي على إثر ولادتها دخلت الجدّة في حالة اكتئاب، تجاوزته بعد وقت قصير، لكنها قرّرت من بعدها الولادة في المستشفى، لتنجب 12 بنتاً، ثم جاء ابنها الذكر، وتلته بنتان.
وعرّجت المخرجة على حلم الحلبية الذي عبّرت عنه بالرسم كما بالكلمات، وهو العيش في بيت مستقل له حديقته الخاصة، هي التي تنقلت على مدار نصف قرن من الزمن ما بين منازل عدّة، منها البيت في منطقة باب الزاوية التي تحولت إلى مستوطنة تحمل اسم الدبويا في الخليل، ما أجبرها على إخلائه لحماية بناتها من اعتداءات المستوطنين، وبيتها في حلحول قرب الخليل، وأقامت في جزء منه صالوناً نسائياً، ومن ثم البيت في منطقة راس الجورة في الخليل، وانتقلت إليه بعد وفاة زوجها، وبيت حي الجامعة الذي انتقلت إليه في فترة الانتفاضة الثانية، أي ما بعد عام 2000.
أشارت رنا أبو شخيدم، في نقاش تلا عرض الفيلم إلى أنها وجدت في حكاية جدّتها كثيراً من التفاصيل الملهمة، ومن بينها فكرة أم البنات، وحكايات التهجير، وإقامة الصالون، والحياة في الخليل التي تشتهر بأنها من أكثر المدن الفلسطينية محافظة، وهو ما قد يكون محور فيلم قادم لها، خاصة بعد توفّر العديد من المواد الأرشيفية في العامين الأخيرين حول المدينة قديماً، وهو ما لم يكن متاحاً بهذا الشكل حين اشتغلت على الفيلم خلال فترة جائحة كوفيد-19، مع أنها استخدمت بعض المواد الأرشيفية بما يفيد رواية "الحلبية"، في حين كان للرسم حضوره اللافت كعناوين لفصول الرواية المُصوّرة.
وتمتعت الجدّة في النقاش كما في الفيلم بذات الشخصية المُحبّبة خفيفة الظل، ما جعل حضورها لافتاً، ولا سيما عندما أخرجت صورة بناتها من أحد جيوب جلبابها، هي التي تميّزت بفلسفة خاصة، تقوم على أن العمر لا يقاس بالسنوات، بل بالاستمتاع بها، وأن مردّ ذلك القناعة، فالطفولة رحلة ممتعة في كنف الوالدين والعائلة، ومرحلة الدراسة لها خصوصيتها الجميلة، ومن ثم الارتباط والزواج، وبعد ذلك مرحلة الأمومة المتواصلة، ويليها تلك المتعة الخاصة مع الحفيدات والأحفاد، وهكذا.
وعلى الرغم من الإمكانات التقنية المتواضعة نسبيّاً، فإن فيلم "الحلبية" كان بمثابة رحلة شيّقة تحمل سيرة من سير فلسطين، ونضالات نسائها؛ فالبقاء في فلسطين، والثبات ما بعد "نكبة"، و"نكسة"، واستيطان يتواصل ويتوسع باستمرار، وحواجز عسكرية، وجدار فصل عنصري، فيما تقلّب "الحلبية" ما يصلها على "واتساب" في هاتفها المحمول، وتتصل بالفيديو بحفيدة لها خارج فلسطين، هي التي عايشت النكبة طفلة، وتعيش زمن جنون الذكاء الاصطناعي ما بعد ثلاثة وعشرين عاماً على الألفية الثالثة، وتغني: "وديني مطرح ما توديني".