- التغييرات التكنولوجية والعولمة أدت إلى تفوق المنصات الرقمية على وسائل الإعلام التقليدية، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الرقابة والتأثيرات الثقافية لهذه التكنولوجيا على الجيل "زي" والأجيال القادمة.
- يتطلب التعامل مع هذه التحولات التفكير في كيفية المحافظة على القيم الثقافية والاجتماعية مع استيعاب الفرص التي تقدمها التكنولوجيا الحديثة، مما يدفع إلى إعادة التفكير في العلاقة بين التكنولوجيا، الثقافة، والمجتمع.
لا ندري الكثير عن الجيل "زي" (مواليد أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين)، ولا عن نتائج علاقته بالشاشات المتنوعة التي تعرض المنتجات البصرية، من سينما وتلفزيون، وحتى مسرح. ما لحظناه حتى اليوم هو تعلقه بشاشة الكومبيوتر واستغراقه بها كمصدر وحيد للتواصل مع المنتجات المعرفية كافة، ومنها الفنون على أنواعها. هذا ما آلت إليه أمور الحداثة، كتقنيات تسهيلية عند ممارسة الأنشطة والهوايات.
هل هذه مشكلة وعلينا التمعن والتفكير في حلها أو التخفيف من آثارها، خصوصاً أننا مررنا بـ"مشكلات" أو انتقالات مشابهة ولم ننجح في حلّها ولم نخفف من آثارها، بل ضحينا بالمُنتَج نفسه (مسرح، سينما، إذاعة)، من دون ندم، على اعتبار أن التكنولوجيات تجبُّ ما قبلها، وذلك بناءً على النوعية الثقافية لعلاقتنا بهذه الوسائل التسهيلية؟ فالسينما لجمت المسرح وحجمته، ليأتي التلفزيون ليلجم السينما ويقتلها، واليوم شاشة الكومبيوتر (تستخدم شاشة التلفزيون الذكي) تلجم شاشة التلفزيون وتركنها جانباً، ضاغطةً على المتلقي لتناول أعمالها و"عمايلها"، للمشاركة بطريقة ما، لا في العولمة فحسب، بل بممارستها أيضاً.
ربما كان سؤال العولمة أكثر سؤال سُخر منه في عالمنا العربي، وها هو يواجهنا في كل مفصل من مفاصل رصد حياتنا، ويعرقل علينا تفحص ذواتنا الاجتماعية وظواهرها، بسبب فشلنا في التعامل معها. فموت المسرح والسينما كفعاليتين اجتماعيتين لم يؤدِّ إلى فحص هذه الظاهرة، وكأنهما ترف على رفاهية زائدة لا ضرورة لوجودهما أصلاً. واليوم يضاف إليهما موت شاشة التلفزيون القريب على يد المنصات المعولمة، من دون معرفة أو توقع فعلها الاجتماعي وضرورته. طبعاً، لم يكن لدينا حلّ للعولمة المرفوضة المسخور منها كما لم تكن لدينا رؤية للتعامل معها، تماماً كما حصل التعامل مع فقدان المسرح والسينما بطتنيش عالي المسؤولية. ففقدنا قدرة الفاعل المشارك، وبقينا مستهلكين للتسهيلات التكنولوجية. ننفعل ولا نفعل.
زعمنا، في العالم العربي، أن شاشة التلفزيون أحسن من شاشة السينما، لأنها تضم العائلة إلى جانب بعضها البعض في رؤية جماعية تشدّ أواصرها. كان مفهوماً أن هذه الديباجة رقابية وذكورية، لا تعرف معنىً لاستقلالية الفنون واختصاصاتها. واليوم ننقلب للأسباب نفسها، ليصبح التلقي فردياً، ضاربين عرض الحائط بشعار أواصر الأسرة. وهنا علينا السؤال: هل هناك مترتبات على التلقي الفردي للمنتجات البصرية؟ بالطبع لا، لأنه ليس لدينا بديل لما يصلنا من المنتجات العولمية.
مرحلياً، الشاشة مقسومة إلى نوعين: الأولى: شاشة التلفزة والمحطات الباثة لها، والثانية: شاشة المنصات الرقمية التي استباحت الأولى التي لم يبقَ لديها إلا ربات المنازل ومن في حكمهن لمشاهدة بثوثها المفلترة جيداً، وقريباً ستفتقد هذه الشريحة بعد أن تعلمها تقنيات تشغيل الكومبيوتر، وسنعود إلى نقطة مشابهة للحظة فقدان السينما.
فإذا كان المتلقي العمومي قد بدأ يتلذذ بمنتجات الشاشة الرقمية، فإن الجيل "زي" تلقفها كخيار أسهل بالنسبة إليه. شاشات التلفزة والمحطات الباثة أصبحت فائضة عن الحاجة، وربما دخيلة غير مرغوب بها، وقد أصبح الاشتراك في التلقي غير مقيد بالمكان؛ الكل يستطيع المشاركة في جلسة مشاهدة، حتى لو توزعوا في عدة قارات، وأيضاً يستطيعون التشارك بكلمات السر لاشتراكاتهم في المنصات، ويتبادلون المقترحات. هذه المشاهدة الفردية أصبحت تشاركية أكثر بكثير من المشاهدة التي تدعي الحفاظ على تماسك الأسرة.
من جهة ثانية، عمل الفارق الرقابي بين الشاشتين على إحداث فجوة نوعية كبيرة من ناحية التلقي، إذ أصبح هامش الاختيار الفردي الحر أوسع وأكثر تركيزاً، وبالتالي تمكن المشاهد من تحصيل نظرة نقدية، تتجاوز بكثير ردود الأفعال الجماعية المتأثرة بالأفكار العمومية التي تشارك في صياغتها الثقافة المتداولة حول القيم. ومن هنا تبدو لنا المقاربة العشوائية بين الشاشتين مقاربة عقيمة، لأنها لا تقترح المشاركة بهذه الأفعال كما هي، بل تريد ( في أحسن الأحوال) التعديل عليها، مع الاحتفاظ بحق الاستفادة من تكنولوجياتها، وهذا ما يذكرنا بشدة بموقفنا من العولمة أولاً، ثم اندغامنا بها، كمستهلكين لا كمنتجين، لذلك تبدو المشاهدة الفردية لمنتجات المنصات الرقمية حلاً لا تستطيع الرقابات قمعه، وهذا بذاته مشجع أكيد على ممارسة هذا النوع من العولمة الإجبارية، فالمساحات خارجها مساحات عديمة القيمة، حتى لو كانت كبيرة ومترامية، ومسلسل "فرندز" مثال حقيقي، على الرغم من اعتباره عملاً تلفزيونياً نسبة إلى تقنيات بثه الأولى. تجاوز هذا العمل الممنوعات الرقابية ظاهرياً (بناءً على الرقابة الأميركية)، لكن فعله بدا عميقاً ومستمراً منذ الجيل ما قبل "زي"، واستمر معه، لأنه مارس تلك الثقافة العولمية التي توغل تسرباً في عروق هذا الكوكب.
ربما نظرنا إلى الجيل "زي" على أنه الجيل الخارج على الرقابة، وبالتالي خارج عن التربية السليمة وينبغي ترويضه وإعادته إلى الرشد، ولكنه كالأجيال التي سبقته التي اعتمدت التسهيلات التكنولوجياتية؛ خرج ولن يعود، فلن يستبدل أحد جواله بالهاتف ذي القرص بعد الآن، بل قد يتطلع إلى تسهيلات أكبر، يستطيع عقله التعامل معها، بغضّ النظر عن أي ثقافة سابقة. فالخضوع الطويل للتسهيلات المستوردة التي رفضنا المشاركة في إنتاجها لأسباب ثقافية، يجعل من المهارة حلاً وحيداً للتعامل مع العصر واستهلاك منتجاته، بغضّ النظر عن أي ثقافة مفروضة، مهما كانت مبررات فرضها. وهذا لا يعني شيئاً محدداً، فالتسهيل التقني، يفتح المجال لقول ما لا يقال في ثقافة ماضية ترفض المشاركة أو صياغة موقف مما هو موجود وفاعل، مشهرة الرفض حتى يبكمها الطوفان.
المشاهدة ليست فناً أو دراما فقط، بل هي أخبار وتحليلات ووثائقيات، تبثّ معلوماتها، مغيّرةً أسس ممارسة المعرفة، حيث أصبحت معلومات الماضي فتافيت معرفية، لا طاقة لها بتحمّل تبعات العيش الحديث الذي تخرق ثقافته مع كل رنّة موبايل، ومع كل ضغطة أصبع على الـ"ماوس"، تطلب من المثلث المنتظر على الشاشة "تشغيل".