فنانو بولندا المجندون في مصر، هو عنوان المعرض الذي يستضيفه متحف الفنون الجميلة في مدينة الإسكندرية حتى الحادي والثلاثين من الشهر الحالي. يضم المعرض 9 لوحات رسمها أربعة فنانين من بولندا في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، خلال الحرب العالمية الثانية. هؤلاء الفنانون هم جوزيف جاريما، وإدوارد ماتوشاك، وجيرزي مولودنيكي، وكورديان زامورسكي. تشمل الأعمال التي وثقت وأعيد ترميمها على يد خبراء بولنديين مناظر طبيعية وبورتريهات، ورسوماً لمشاهد من الإسكندرية والقدس وبغداد رسمها هؤلاء الجنود أثناء مرورهم بهذه المدن.
الفنانون الأربعة جاؤوا إلى مصر في أواخر عام 1943 ضمن فيلق الجنرال البولندي فاديسلاف أندرس، وأقاموا لفترة وجيزة تحت إمرة الجيش البريطاني، قبل نقلهم إلى إيطاليا للمشاركة في أعمال القتال ضد الجيوش النازية. خلال الفترة التي أقامها الجنود الأربعة في مصر أقاموا معرضاً لأعمالهم في أتيليه الإسكندرية، وهو أحد أعرق المؤسسات الفنية في المدينة الساحلية. وهم دأبوا على تنظيم معرض لأعمالهم في كل مدينة حلوا فيها. بعض هذه الأعمال اقتنتها الحكومة المصرية، وانتقلت من مكان إلى آخر، حتى استقرت أخيراً في مخازن متحف الفنون الجميلة، وهو من أهم المتاحف الفنية في المدينة. بمرور السنوات، أهملت هذه الأعمال. ولأنها لم تكن موثقة، فقد تم التعامل معها كأعمال لفنانين مجهولين، وظلت قابعة لعشرات السنوات في مخزن المتحف حتى أصابها الضرر.
عام 2012 زارت المتحف مهندسة بولندية لتفقد أعمال الترميم الجارية للمبنى، ضمن إطار للتعاون الثقافي بين مصر وبولندا. تعرفت المهندسة البولندية على هذه الأعمال، وأبلغت وزارة الثقافة في بلادها، فأرسلوا على الفور خبيراً ليؤكد هويتها، وهو الناقد والمؤرخ الفني البولندي البارز جان فيكتور. تأكد فيكتور من هوية الأعمال ونسبها إلى الفنانين الأربعة المُشار إليهم، واتفق الجانبان البولندي والمصري على تنظيم معرض لائق لهذه الأعمال المُكتشفة.
إلى جانب اللوحات تضمن المعرض أيضاً نماذج من صفحات المجلات والصحف التي احتفت بهذا المعرض الذي أقامه الجنود قبل ثمانين عاماً، إلى جانب استعراض سينوغرافي لجهود الجنرال فاديسلاف أندرس الذي يعود إليه الفضل في تشجيعهم على مواصلة إبداعهم أثناء الحرب. كان الجنرال البولندي معروفاً بتشجيعه للمواهب بين جنوده، ولمُوثق هذه الأعمال جان فيكتور دراسة مهمة تحت عنوان "فنانو أندرس"، يسلط خلالها الضوء على العشرات من المواهب والمبدعين الذين ضمهم جيش الجنرال البولندي المتجول في منطقة الشرق الأوسط.
وبحسب الدراسة التي وضعها فيكتور، كانت مدينة الإسكندرية هي المحطة الأخيرة لهؤلاء الجنود، فقد وصلوا إليها بعد رحلة شاقة، عبروا خلالها أراضي الاتحاد السوفييتي السابق إلى إيران كلاجئين ومُهجّرين. من بين هؤلاء اللاجئين تكوّن فيلق عسكري تحت إدارة جيوش الحلفاء ضم الآلاف من هؤلاء البولنديين الذين شردتهم الحرب. عبر هذا الفيلق البولندي من إيران إلى العراق ومنها إلى سورية ثم فلسطين، حتى وصل إلى مصر تمهيداً لعبوره البحر المتوسط نحو إيطاليا. من بين هؤلاء الجنود كان هناك العشرات من الفنانين والأدباء والمسرحيين والموسيقيين والمصورين البارزين الذين هجروا بولندا في أعقاب الحرب.
هي حكاية مؤثرة بالطبع تحمل الكثير من الدلالات والمعاني الإنسانية، فمن رحم المعاناة يولد الإبداع كما يُقال، ومن بين المآسي الإنسانية تتشكل بذور الجمال والمحبة. ولكن بعيداً عن هذه الدلالات الإنسانية والقيمة الفنية التي يحملها المعرض، فثمة جانب مختلف من هذه الحكاية المؤثرة لهؤلاء الفنانين الأربعة، وهو جانب ربما تم إغفاله، كما تغاضت عنه التغطية الإعلامية للمعرض. فهذا الجنرال البولندي الذي يُحتفى بجنوده اليوم في مدينة الإسكندرية كان له دور بارز في النكبة الفلسطينية، بل كان لأحد جنوده المتعصبين يد في مذبحة دير ياسين.
حين عبر فيلق الجنرال أندرس إلى مدينة القدس تحت إدارة القيادة البريطانية هناك انضم عدد كبير من جنوده إلى العصابات اليهودية في فلسطين بتشجيع مباشر من أندرس نفسه الذي كان مؤمناً بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وحين سُئل عن ذلك لاحقاً، صرّح بأنه لم يكن يرغب في الوقوف ضد رغبة أبنائه الجنود من اليهود في الكفاح من أجل إنشاء دولة يهودية على أرض أنبيائهم.
بلغ عدد الجنود البولنديين الذين تركهم أندرس وراءه في فلسطين قبل عبوره إلى مصر أكثر من ثلاثين ألف جندي، حسب الدراسة التي أعدها فيكتور. وكان لهذا العدد الكبير من الجنود بلا شك تأثير بالغ على الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان على وشك الاشتعال، وكان لهؤلاء الجنود دور فارق في ترجيح كفة الجانب اليهودي والمرتزقة الأجانب في فلسطين وسبب رئيسي في نكبة عام 1948. يُذكر أيضاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق في فترة السبعينيات، مناحيم بيغن، كان من بين جنود أندرس الذين انضموا إلى العصابات اليهودية في فلسطين، وهو المسؤول الأول عن مذبحة دير ياسين عام 1948.