الجاز في أفريقيا... الوجه والمرآة

01 مايو 2022
سخّر فيلا كوتي مجهوده الإبداعي في سبيل البحث عن هوية قاريّة جامعة (Getty)
+ الخط -

في عام 1957، دُعي الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، إلى حضور مراسم احتفال دولة غانا باستقلالها عن التاج البريطاني. حين مرّ الرئيس بصحبة وفده في أحد الأروقة، اعترض خُطاه رجلٌ أسود البشرة، ظنّه على الفور المناضل الغاني، وأول رئيس للوزراء، كاوامي نروما (Kwame Nkrumah)؛ فسارع إلى تهنئته بنصر بلاده. فما كان من الرجل الأسود إلا أن أوضح أنه لم يكن نروما، وإنما المناضل الأميركي، مارتن لوثر كينغ.

لم يتسنّ لنيكسون أن يُميّز ملامح واحد ممن سطروا تاريخ بلاده الحديث (بما تعنيه الحداثة من كلمة). وذلك من خلال قيادته الحراك السلمي في سبيل نيل الأميركيين السود حقوقهم المدنية. من جهة أخرى، لم ير رئيس الولايات المتحدة لوجه لوثر كينغ هويةً أميركية أصيلة، وإنما مجرّد وجهٍ أفريقيٍّ آخر. هذا في ما يخص السود الأميركيين وسماتهم. أما حينما يتعلق الأمر بفنٍّ أبدعوه، ليُطوّب الشكلَ الجمالي الأوحد الذي قدمته أميركا إلى العالم، ألا وهو موسيقى الجاز، فإن المسألة تختلف.

كثيراً ما يُنظر إلى الجاز على أنه موسيقى السود الأميركيين وحدهم، ومن دار في فلكهم من البيض، ويُغفل ما تزخر به القارة الأفريقية من ألوان وأعلام لذلك الفن، تتنوّع بتنوّع البلاد الأفريقية، وتختلف باختلاف ظروفها التاريخية وطبيعة تجربتها في الاحتكاك بالموسيقى الغربية والأميركية، وغيرهما.

نيجيريا، خامس أغنى دول القارة حالياً، كانت قد شهدت زخماً إيقاعياً إثر عودة رواد الجاز الأوائل إليها، من ساحات الحرب العالمية الثانية في أوروبا منتصف الأربعينيات. متأثرين بأبواق وصنوج الفرق الأميركية الكبيرة (Big Band) كالتي لـ غلين ميلر وبيني غودمان، أخذ نيجيريون مثل بوبي بنسون (Bobby Benson)، يؤسسون لتقليد موسيقي مُشابه ومُطعّم بالأصول المحلية. في أغنيته الشهيرة "سائق تكسي" (Taxi Driver)، يستلهم بنسون بوق السيارة في هرج ومرج شوارع العاصمة لاغوس. يبدأ به رحلة يخوضها وفرقته الموسيقية على نبض إيقاع لاتينو جنوب-أميركي، مُصاحباً بجوقة غنائية على طريقة الإرساليات الكنسية.

تطلب الأمر مرور عقود من الزمن، حتى الستينيات، إلى أن تبلور في نيجيريا مشهد جاز حديث. حينها، برز اسم فيلا كوتي (Fela Ransome-Kuti). إلى جانب نبوغه الموسيقي وتلوّن وجوهه، من إتقان آلات عدة إلى قيادة فرق وتأليف مقطوعات وأغان، كان كوتي ناشطاً سياسياً أفريقوياً Pan-Africanist، سخّر مجهوده الإبداعي في سبيل البحث عن هوية قاريّة جامعة، ترتكز على اللون المشترك، والإرث المشترك، والإجماع المشترك، حول حتمية التحرر من الاستعمار ونقض الكولونيالية.

في أغنيته "شاكارا" (Shakara)، تبرز إلى جانب مجموع الإيقاعات المحلية، تلك الانسجامات التي ميّزت مرحلة البي - بوب (Bibop) المتأخرة؛ إذ تتناهى أصداء ألبوم مايلز ديفيس الشهير "شيء من الكآبة" (Kind of Blue)، إضافةً إلى التراكيب اللحنية المينيمالية القائمة على التكرار، الذي يُؤمن بيئة ملائمة للارتجال الحر على آلة الساكسوفون. في "شاكارا" أيضاً، يتبدى للأذن حضور الغناء، نصاً وألحاناً تُسانده الجوقة الإنجيلية، سمةً عامةً للجاز الأفريقي، مثلها مثل ورود فقرات شفهية مجردة مسحوبة اللحن، تقوم على الإلقاء المحض وتحاكي طراز الهيب هوب.

طبعت التاريخ السياسي المركّب لدولة جنوب أفريقيا، مراحلُ تطور الموسيقى فيها إبّان الفصل العنصري. مثّل الجاز مجتمعات القاع ضمن الأحياء السوداء المستهدفة بممارسات العزل والتمييز، والمثقلة بأشكال الفاقة وانعدام التنمية، أو ما يُسمى بـ "تاون شيب" (Township). في منتصف القرن الماضي، كان نمط الفرق الكبيرة، بشكله المستورد من الأميركيتين، بمثابة البيئة الموسيقية الحاضنة للمُضطهدين ثقافياً، والمجال الترفيهي والتعليمي والمهني لمن يود من بين الجنوب-أفريقيين السود، إما أن يستمع إلى الموسيقى ليستمتع بها ويرقص على أنغامها وإيقاعاتها، أو أن يُصبح بدوره موسيقياً محترفاً.

بهذا، صار الجاز نغمة متناقضة تعكس تناقض مجتمع الأبارتايد، لحناً مرافقاً لأجواء حانات الأقبية، أو ما يُعرف في جنوب-أفريقيا بالـ شيبينز (Shebeens)؛ مرتع العتاة من أفراد العصابات والمدمنين، وفي نفس الوقت، ملجأ المبدعين المهمشين المتعطشين إلى اجتراع الفن وإخراجه.

هكذا، بزغت شمس ميريام ماكيبا (Miriam Makeba)؛ تلك الأيقونة الأفريقية الخالدة. كان لقبها "ملكة جاز التاون شيب"؛ إذ مثّلت من خلالها حياتها وإرثها الفني، صنوف الصعوبات غير المتخيلة التي قاستها المجموعة العرقية السوداء زمان الفصل العنصري. على الرغم من موهبتها الفذة، وحضورها العابر للتقسيمات المجتمعية داخل جنوب أفريقيا، لم يكن من السهل، إن لم يكن مستحيلاً بالنسبة لامرأة حالكة البشرة، العيش بكرامة من وراء امتهان الموسيقى. لذا، اعتمدت المغنية الشابة على تألقها بدايةً ضمن أفلام سينمائية، بغية الصعود على سلم الشهرة، فالاعتراف بها قامةً عالية.

كل من القمع والتهميش المُمأسس، حَدَوا بـ ماكيبا إلى أن تغادر البلاد، لتعيش منفية بين الولايات المتحدة، في سبيل أن تعيش شغفها بالموسيقى. هناك، وفي عام 1976، أنتجت أشهر أعمالها، "باتا باتا" (Pata Pata): بهجة مفعمة بالطاقة والحيوية. فور سماعها، يسطع نور الشمس في المخيلة الصوتية. تعتمد نبضاً إيقاعياً لاتينياً جنوب - أميركي، ترافقه آلة البيانو. يحمل صوت ميريام على شكل دفق مستمر حتى الختام. من جهة، ماكيبا حنجرة بخامة صوتية جبارة تصدح كبوق ترومبيت منفرد بقوة أمة. من جهة أخرى، سحر نديّ لأنوثة، تنبثق من تربة سمراء، لم تزل تهب الأرض الحياة.

إن كان الجاز صدى المدن الكوزموبوليتية الصاخبة والمفطورة على التلون الاجتماعي والتنوع الثقافي، فلا بد للعاصمة المصرية القاهرة بأن تأتي للقارة الأفريقية بوجوه موسيقية فذّة. في البداية، ساهمت مركزية الموسيقى العربية، ضمن المشهد الثقافي المصري، بظهور موسيقى جاز مصرية اكتفت بطابع غربي، لم تلتحم بالتيارات المحلية، وإنما نمت على التوازي معها، وتحت ظلها في معظم الأحيان.

أتى الخرق بعصا عازف طبول الدرامز المصري الرائد يحيى خليل. على الرغم من أن ولادته الموسيقية كانت في رحم الجاز الأميركي التقليدي، إذ بدأ مطلع ستينيات القرن الماضي، بتأسيس رباعي القاهرة لموسيقى الجاز، الذي قدم العروض على شاكلة الفرق الغربية المرموقة، بعدها، سافر ليدرس في الولايات المتحدة، ويحيي حفلات إلى جانب نجومها الكبار، سواء لموسيقى الجاز، أم الروك آند رول.

إلا أن خليل، وفي مطلع الثمانينيات، نجح في التقاط السمات المشتركة التي تجمع ما بين الموسيقى المصرية بشقيها الكلاسيكي ذي الأصول العربية، والفلكلوري ذي الجذور الأفريقية، من غنائية وإيقاع نافر وميل إلى الارتجال. عندها، شرع في صهر كل من الإرثين، مؤسساً لما سيُعرف لاحقاً بـ "الجاز الشرقي" (Oriental Jazz). صهرٌ، جاء ليس على مستوى العناصر اللحنية والإيقاعية وحسب، وإنما أيضاً على مستوى العناصر البشرية، من خلال دعوة عازفين ومغنين محليين، كالفنان محمد منير، إلى التعاون مصرياً في بلورة الفن الجديد، والمضي قدماً في المسعى الحداثي القاهري.

للمفارقة الحضارية، فإن لوناً موسيقياً امتدت جذوره من  ربوع القارة الأفريقية، كان قد نضج وتبلور في الولايات المتحدة، عاد ليُلهم موسيقى الجاز في بلدان أفريقيا. الأمر الذي يدلّ على مدى التأثير المتبادل بين المُستعمَر والمُستعمِر، ويُشير إلى سمة إنسانية فريدة أخذت تُثير حفيظة كل من حافتي السياسة والفكر في هذه الأيام، ألا وهي التلاقح العابر للهويّات.

ففي حين تعلو الأصوات التي تدعو إلى النقاء، تارةً من باب اليمين بفعل رُهاب "الاستبدال العظيم" (Great Replacement)؛ إذ يخشى الغربي الأبيض زحف الآخر، وتارة من باب اليسار، تحت شعار نقض الكولونيالية، إنما عبر منظور "الاستيلاء الثقافي" الضيق، تغنّياً بصون عذرية الآخر، ظلت الإنسانية على طول التاريخ تؤثر وتتأثر ببعضها بعضاً. تتلاقى وتتقاطع وتتلاقح. كأني بالعالمية، هي حال تطورها الدائم، ومآله.

المساهمون