التصوير العلمي يكشف تنقيحات غير ظاهرة في جداريات رسامي مصر القدماء

13 يوليو 2023
ينظر علم المصريات إلى الفن الفرعوني على أنّه تقليدي وخاضع لقيود صارمة (Getty)
+ الخط -

كشفت تقنيات التصوير العلمي أن أعمالاً فنية تعود إلى مصر القديمة خضعت لتنقيح فني لم يكن ظاهراً للعين المجرّدة قبل اليوم، ومنها مثلاً رسم للفرعون رمسيس الثاني عُدّل فيه بمهارة موضع الصولجان قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، ممّا يدلّ على أن الرسامين في ذلك الوقت كانوا يجيدون التحرر من قواعد الفن الجامدة.

ومنذ القرن التاسع عشر، اعتبر علم المصريات الفن الفرعوني تقليدياً جداً، إذ يخضع لقواعد نمطية تقيّد الفنانين، وفقاً لدراسة نُشرت الأربعاء في مجلة بلوس وان الأميركية، الصادرة عن بابليك لايبريري أوف ساينس.

ولاحظ معدّو الدراسة أن الرسامين الحرفيين الذين كانوا يعملون في المقابر "ليسوا في منأى عن هذه الأحكام المسبقة"، ومفادها أنهم كانوا يكتفون برسم أنماط محددة سلفاً على جدران غرف دفن الموتى.

إلّا أن استكشاف رسوم المقابر في وادي الملوك أتاح للعلماء اكتشاف آثار لقدرة على الابتكار لم تكن تتوافر قبل اليوم معطيات تشير إليها.

وأبرز هذه الرسوم واحدٌ يمثّل رمسيس الثاني في مقبرة الكاهن نختامون، رُسم قبل نحو 1200 عام من العصر الحالي. ويظهر فيه الفرعون الشهير في وضعية جانبية معتمراً غطاء رأس وواضعاً قلادة وحاملاً صولجاناً ملكياً.

لكن وراء الرسم الظاهر للعيان تركيبة مختلفة كلياً، كشفتها تقنيات التصوير والتحليل الكيميائي المحمولة الجديدة التي تتيح درس الأعمال في الموقع نفسه من دون حاجة إلى نقلها وتالياً الإضرار بها.

وتوضح الأجهزة على روبوت صغير يتحرك على طول الجدران المطلية. وبفضل رؤيته لأطوال موجات ضوئية مختلفة (الأشعة السينية وفوق البنفسجية وتحت الحمراء وسواها)، يستطيع الروبوت "فحص المادة" بعمق، كالماسح الضوئي الطبي، بحسب ما شرحه لوكالة فرانس برس المعدّ المشارك للدراسة، فيليب والتر، من المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية.

وبعد لحظات قليلة فحسب من بدء فحص الرسم الجداري، تبيّن وجود ملامح لم تكن ظاهرة إطلاقاً بالعين المجردة، وهي عبارة عن قلادة وغطاء رأس أصليين "مختلفين عن الشكل الذي نراه اليوم"، بحسب ما أوضحه الكيميائي المتخصص في دراسة مواد التراث الثقافي.

كذلك أُجري تنقيح لمكان الصولجان الملكي يتناسب مع الموقع الجديد في الرسم لكتفَي رمسيس الثاني، وهو أدنى بكثير مما كان عليه في النسخة الأولي.

وقال المعدّ المشارك للدراسة، وعالم المصريات في المركز الوطني للبحوث العلمية، فيليب مارتينيز: "لم نكن نتوقع رؤية مثل هذه التعديلات على رسم الفرعون المفترض أن يكون رسمياً جداً"، ولا يتغير مع الزمن.

مثل رسّامي عصر النهضة

بيّن التحقيق، الذي أجراه فريق متعدد التخصصات، عن تعديلات مماثلة في مقبرة تحمل اسم النبيل مننا في الأقصر، والتي تعود إلى الحقبة نفسها تقريباً (ما بين 1400 و1200 سنة قبل العصر الحالي)، وتحديداً على رسم لهذا النبيل مادّاً ذراعيه نحو إله الموتى أوزوريس في وضعية عبادة.

أمّا العنصر شبه الخفيّ فكان وجود ذراع "ثالثة"، وهو ما أكدته الدراسة، ويعود ذلك إلى أن ذراع مننا نُقلت خلال تنفيذ الرسم من مكان إلى آخر لتصبح قريبة من وجهه.

وأظهرت التحاليل الكيميائية أيضاً تغيّرات في الأصباغ المستخدمة في لون جسم الشخصية.

كم سنة مرت بين التنقيحات؟ هل نفذها الرسامون أنفسهم؟ من الصعب معرفة ذلك، بحسب مارتينيز، لكنّه يؤكّد أنّ العلماء يعتبرونها بالغة الأهمية ويرون فيها "حرية إبداعية".

وشدّد الباحث على أن هذا الاكتشاف ينسف الاعتقاد بأن فن مصر القديمة كان قائماً على رسوم مجهّزة سلفاً، "بحيث لا يخترع الفنان أي شيء عندما يكون قبالة الجدار".

ولاحظ عالِم المصريات أن هذه التنقيحات، سواء أكان الرسام نفسه نفذها أو سواه، كانت تهدف إلى تصحيح "عمل (...) غير كامل".

أمّا فيليب والتر فرأى أن الفنان يتخذ بهذا التنقيح الذي يغيّر "تكوين الرسم" خياراً يضفي لمسة شخصية لا تمتّ إلى ترميم اللوحات بصلة.

وذكّر بأن "هذا النهج (...) موجود أيضاً لدى رسامي عصر النهضة الكبار، ومنهم تيتيان الذي يغير زاوية وجوه رسومه، ورافاييل الذي يغيّر مكان ساق المسيح...".

وشدّد فيليب مارتينيز على أن "الفن الفرعوني سيبدو، في حال تأكّد أن هذا المنحى موجود في أعمال أخرى من مصر القديمة، قريباً من "المعايير الجمالية الحالية المستمدة من الفن اليوناني الروماني".

(فرانس برس)

المساهمون